الوعي الكتابي يعكس وعي الشعراء بالرسالة/ الوظيفة الشعرية والتركيز عليها داخل شعرهم، في حين يعكس الوعي النصي وعي النقاد بالنص نفسه و" شفراته" ووعي اصحابه به كذلك، من هنا يدخل الشاعر نفسه في محنة الكتابة، وهي امتحان نصي، يشتغل فيه الشاعر على بناء معمار وبنيات كتاباته الشعرية، من خلال وعيه وثقافته ومؤهلاته الفنية في القدرة على صناعة قصيدته الخاصة، وبين( الكتابة في درجة الصفر) كما يقول (بارت) بأن هذا النص درجة الشعرية فيه صفر،وبين شعريات (تودوروف) و(ياكبسون)، وعلى الجانب الاخر يقف (دريدا) في تفكيكياته الشهيرة، تحت ضغط هذا المثلث الفوضوي تنبني القصيدة ويشتغل وعي الكاتب في وعي الكتابة مستفيدا من مجموعة من الجدليات والشعريات، أهم ( شعرية المفارقة).
المفارقة هي طريقة في الكتابة غايتها تأجيل المغزى واثارة المتلقي عبر صوغ بلاغي يستعمل الكاتب فيه ـ أي في هذا الصوغ ـ اللغة بشكل خادع،وهي تشير على الدوام الى انحراف ما ، على مستوى منطق الفكر،أو على المستوى اللغوي،وهذا الانحراف هو الذي يحدث المفاجئة لدى القارىء(1)،ويجعله يدرك انه يتعامل مع لغة خاصة، لقد صدق غوته عندما وصف المفارقة بأنها((ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبول المذاق))(2) كما ان المفارقة في النص ليست ومضات تتشكل في التناقض العفوي من حالات تضادية يراد بها الأدهاش وحسب، بل هي وعي كتابي خاص يتحول الى ابتكار له القدرة على تقديم تشكيلات(صورية/لغوية) تصل احيانا الى حد الصدمة الفكرية لدى المتلقي وينطوي فكر المفارقة على((تفاعل جدلي دائم بين الحقيقة الذاتية،وبين الحرية والضرورة،بين مظهر الحياة وحقيقة الفن،بين وجود المؤلف في كل جزء من عمله عنصرا مبدعا منعشا وبين ارتفاعه فوق عمله بوصفه(المتقدم)الموضوعي))(3).
تشتغل الفاتحة النصية في قصيدة الشاعر علي الستراوي(منازلٌ ليس لها مالنا) على مفارقة (الهدم) و(اعادة البناء)من اجل خلق فضاء انساني جديد لايقوم الا بالأفتراق،واعادة تنظيم الاشياء على أساس المفارقة التي تشي بقدرة الحرف على جمع امم شعرية تعجز عن جمعها الدماء(اي ابناء الحرف الواحد) اكثر قرابة واشد التصاقا من(ابناء الدم الواحد) وهذا الكلام يذهب عميقا في الانسانية باتجاه المقولة التي تؤكد ان(الشعراء مشرعو العصر):
جسدي فوق حجرٍ قاسٍ ..
وقدمي فوق جمر الشهوة الأولى من النار
لا الحريق تقدم خطيئتي ..
ولا خطيئتي ادركت سرُّ عنفوانها ..
كأنها والضياع في سفر المحبين خيانة
وفي الوشيعة حبلٌ يقيُّدني بالصمت
أجوعُ ..
ان المفارقة اللفظية:هي((خط كلامي،او طريقة من طرائق التعبير ويكون المعنى المقصود منها مناقضا او مخالفا للمعنى الظاهر))(4) ولعل عقدة المفارقة وجماليتها تتجلى في كونها تحمل مدلولين لدال واحد،الأول:حرفي ظاهري وجلي،والثاني:موحى به خفي،والمفارقة اللفظية تشتمل على علامة توجه انتباه المخاطب نحو التفسير السليم للقول،لذلك فان حل شفرة المفارقة يستلزم مهارة خاصة لفهم العلامة،وهي مهارة ثقافية وايدلوجية،يشارك فيها المتكلم والمخاطب.
في غمرة افتتانه باللغة،يؤكد هيدجر ان تأريخ الكلمات هو نفسه تأريخ الوجود(5)،فشعرنا اذن هو تأريخ وجودنا،هذا الوجود العصي الأشكالي المشتبك بالوجع والوجد والعنف،فالشعر هو نتاج مخاضات نعيشها ونكتوي بعذاباتها،ذلك ان الحضارة المعاصرة كذبت على الانسان كذبتها التاريخية يوم وعدته بالسعادة وفرح المصالحة مع الذات والاخر،ومع الزمن والعالم لكنها أعطته في الواقع ما لا يصدق من العذاب والخوف والكوارث يقول الشاعر الستراوي:
كأنها السفين الذي لم يغادر البحر
على ظهرها وجع العالم
وأحزان المحيطات الغريبة ..
غادرتني يوم غادرني المكان ..
وانشغل الليل بموت البحر ..
وبكاء النخل ليلة العرس
واستنادا الى مقولة فلوبير((ما يعذبك، يعذب اسلوبك في الكتابة)) يقرر أدونيس في ثلاثيته( القاهرة التي علمتني) ان معظم النصوص التي تكتب اليوم احتفاء بالراهن، العادي،اليومي، تفتقر الى مثل ذلك ( العذاب) بما يعني تبنيه الصريح لموقف(فكري/ جمالي) مضاد من راهنية وعادية وعرضية النصوص الجديدة،في محاولة كما يبدو لمفهمة متوالية(اليومي) واختباره بوصاية ابوية أزاء ( الميتا ـ لغوي) كما تجدد ايدلوجيا العمود الشعري انبعاثاتها بصيغ مختلفة، للألتفات على مستوجبات الحدث النثري(6)،فالشاعر الذي لانرى في كتاباته عذابا ـ برأيه ـ انما يقول ما يقول بشكل اعلامي اخباري، ولايكون شاعرا انما مجرد ناقل أو راو، وعلى عكس ذلك نرى مفارقة الألم لدى الستراوي:
شفتي فوق تراب مغسولةً بالظمأ
تقدمتْ حينما تقدم الماء..
وحينما غفا النبعُ ..
انحشر الحلم في التيه
عدتُ من جديد ...
استعيدُ غفلتي من الضياع
لعلّني اصطاد طيفكِ ..
اختلي بنبضكِ ..
وفي إنحدار المطر ..
وقبل العشيات ..
ان اغلب قصائد الشاعر علي الستراوي يتدفق الرفض في شرايينها كرد فعل باعلى انسانية على تاريخ العذاب الذي يخيم فوق هاماتنا ولايتركنا الاّ لينقضّ علينا من جديد، كما في هذه القصيدة:
بكيت فوق رسائل حبكِ
بعد أن اضعتها سنياً..
افتشُ عنها كلما شدّني الشوق
وانحدرتْ دموع عيناي على وجهي
سلامٌ عليك
سلامٌ لاتجف اشواقه
ولا تغادرُ بيتنا غيماتهِ الماطرة !.
ان شعر (علي الستراوي) عامة هو شعر(رائي)غير مرئي، والشعر الرائي او القصيدة الرّائية هي وفق الناقد د. محمد صابرعبيد(7):
** القصيدة الرائية: متحركة في الاتجاهات كافة،اذ تتمتع بصفة دورانية ولولبية تذهب فيها الى كل الاماكن المحتملة لأخضاعها لعملية التشكيل بالقدر الذي يخدم تجريتها ويستجيب لفروضها، فتبدو القصيدة المرئية قصيدة ساكنة تكتفي غالبا بما انجزته من ممكنات نصية وهذا ما نلاحظه في قصيدة (منازلٌ ليس لها مالنا):
وفوق سدرة العصافير
حيثُ عشعش العمرُ
واشتعل الرأس بياضاً
حمَّلني صدق النوايا بعد أن
ونحو الإلفة والصدق المباح
التصق جسدي بك
ضممتكِ لصدري
** القصيدة الرّائية هي قصيدة دائبة لاتتوقف في تحولها وديناميتها وحركتها الشعرية عن حد معين،لغتها دائبة وايقاعها دائب وصورها دائبة،تسعى دائما الى التعبير عن قوة داخلية عميقة ترفع مستوى هذا الحراك الى مرتبة الحضور الفاعل المؤثر،القادر على الفات النظر الى حركية انتاجية تتكشف في كل قراءة جديدة،وهو ما لا يمكن ان تتصف به القصيدة المرئية لأنها قصيدة مستقرة آمنت باستقرار حيواتها وقدمت ما عندها في كينونتها الحاضرة كما في قصيدة الشاعر علي الستراوي:
ينكسرُ مايتقدمني في البوح
وتضيعُ خواتمَ السنين في التواريخ المريبة
دربٌ لا يتصل بالخُطا..
وخُطا مثقلةٌ بالحديد ..
منازلٌ ليس لها مالنا..
ودروبٌ أضاعت خطواتها..
فتهتُ في المسير المخيف..
اتفقدُّ قامتي ..
استظلُّ بظلي ..
شفتي فوق تراب مغسولةً بالظمأ
تقدمتْ حينما تقدم الماء..
** تعمل القصيدة الرائية بواسطة لغتها النوعية المنتقاة على كشف الرؤية،وكشف المكان،وكشف الزمن المحيط بها،فدوالها محملة بطاقة جديدة على الكشف والأضاءة والتوق الى الآتي القادم في فضاء التخييل، في حين تتردد القصيدة المرئية بين مكان ورؤية وزمن ماضٍ،تصور فيه وتصف أكثر من ان تعبر وتنجز وتعطي وتزوّد وتكشف،حيث تهيمن الذاكرة على مقدرات الفعل الشعري وتسيّره على وفق سياستها، فاذا القصيدة المرئية على هذا الاساس هادئة لاتثير مشاكل كبيرة على أي مستوى،فأن القصيدة الرائية قصيدة قلقة لا هدوء فيها تعتزم دائما السيرفي حقل الغام،تنطوي على حراك منتج وأسئلة لائبة وحائرة تكشف عن توهج داخلي تتمتع به التجربة،وقلقها هذا قلق ابداعي لابد منه من اجل تشييد تفاصيل التجربة باكبر قدر ممكن من الروح والضمير والرؤيا والفكر والثقافة كما في هذه القصيدة:
ولا خطيئتي ادركت سرُّ عنفوانها ..
كأنها والضياع في سفر المحبين خيانة
وفي الوشيعة حبلٌ يقيُّدني بالصمت
أجوعُ ..
ينكسرُ مايتقدمني في البوح
وتضيعُ خواتمَ السنين في التواريخ المريبة
دربٌ لا يتصل بالخُطا..
وخُطا مثقلةٌ بالحديد ..
منازلٌ ليس لها مالنا..
ودروبٌ أضاعت خطواتها..
فتهتُ في المسير المخيف..
اتفقدُّ قامتي ..
استظلُّ بظلي ..
شفتي فوق تراب مغسولةً بالظمأ
تقدمتْ حينما تقدم الماء..
الى هنا نصل الى القول بان هناك ظاهرة مهمة في الادب العربي وهي (الثورة الشعرية الانسانية الكبرى) والشاعر علي الستراوي احد أصواتها،فحرفهُ ثائر دائما،قصيدته رائية، وشعره انساني كبير.
الهوامش والإحالات
(1) المفارقة،سي. ميو ميك،ت: عبد الواحد لؤلؤة:122
(2) م.ن: 123
(3) م.,ن:123
(4) المفارقة والأدب( دراسة في النظرية والتطبيق): د.خالد سليمان:26
(5) الدلالي في الايقاعي،أ.د. بشرى البستاني:5
(6) وردت آراء فلوبير وأدونيس في كتاب (شعرية الحدث النثري)،ص11،من دون ان يذكر المصادر التي اخذها منها ،وأخذنا نقلا عن هذا الكتاب النقدي المهم.
(7). القصيدة الرائية،أ.د.محمد صابر عبيد:21