مهما كان التباعد الروائي العربي كفكرة وأفكار في زمن جائحة كورونا من خلال عدم التلاقي المباشر في ساحات الأدب والإبداع من جامعات ومنتديات وأمسيات مفتوحة بين فكر روائي وآخر نجدنا نعيش في أزمنة روائية حبلي بكل ردود فعل قد تكون سلبية أو إيجابية في مضمار ثقافتنا العربية التي تكتب فيها الرواية العربية اليوم تحولات جذرية في الشكل والجوهر الإبداعي لعوالم روائية قد تكون ناقصة وقد تكون مكتملة لكن النقد لها هو سيد الفعل المعجون بكل مدلولات زمن الرواية اليوم فصاعدا وسط جائحة كورونا والتي من المؤكد سوف يكون للرواية العربية فيها موقف من عالم التباعد الجسدي كما هو الحال بين فكرة التباعد وفكرة الالتقاء في لحظة فارقة من عمر زمن كتابة الرواية !
وعلى الرغم من حداثة الرواية في الثقافة العربية وكونها (جنسا أدبيا طري العود محدود المراس غير خاضع لوثيرة منتظمة في تطوره ولا لمسات شكلانية في تجلياته) ، فإنها استطاعت أن تكسب ود القارئ العربي تدريجيا منذ أن فجرت عينها رواية (زينب) سنة 1914 لحسين هيكل ( 1888 ـ 1956) وهو تاريخ حديث لا يتجاوز القرن من الزمن، حتى ولو ذهبنا إلى ما ذهبت إليه النقاد المعاصرين كيمنى العيد واعتبرنا معها المرأة هي من فتح باب الرواية العربية برواية (قلب الرجل) التي صدرت سنة 1904 لكاتبة لبيبة هاشم كأقدم نص روائي عربي وقبلها رواية حسن العواقب لزينب فواز الصادرة سنة 1899 .. فإن شلال هذا الفن سرعان ما تدفق بنتاج حاول البعض تصنيفه – وإن لم يرق التصنيف إلى مستوى الاتجاهات والمدارس في الرواية الغربية – بمعايير مختلفة منها
– السياسي: ( مرحلة ما قبل استعمار ، مرحلة الاستعمار، مرحلة ما بعد الاستقلال…)
– الاجتماعي : (مرحلة كلاسيكية / مرحلة عاطفية حالمة/ مرحلة واقعية ) كل مرحلة ارتبطت بمعطيات اجتماعية معينة أثرت في تبنين الرواية العربية
– الفني في العلاقة بالآخر : (مرحلة الاقتباس والتعريب مع جيل مصطفى لطفي المنفلوطي في رواياته المعربة: الفضيلة، الشاعر، في سبيل التاج … فمرحلة الترجمة مع رفاق طه حسين الذين درس أغلبهم في أوربا ، قبل أن تبدأ الرواية العربية في التأسيس لنفسها مع جيل يحي حقي وتصل إلى مرحلة التبلور والتأصيل مع رفاق نجيب محفوظ، وتنتهي إلى مرحلة التحديث مع عبد الرحمان منيف وحيدرحيدر وحنا مينه … كما حاول البعض تبويبها حسب المواضيع والتيمات مميزا بين رواية الحروب، العاطفية، البوليسية…
– القطري الجغرافي : بدراسة الرواية حسب الأقطار ( الرواية المصرية/ السورية/ اللبنانية/ المغربية …)
ومع ذلك ظل عدد المهتمين بالرواية العربية إبداعا ونقدا عددا محدودا، ولم تعرف بعض البلدان العربية التأليف في الرواية إلا في السبعينات، وكانت أول رواية نسائية في الأردن مثلا سنة 1976 وفي بلد كالمغرب وإلى حدود منتصف الثمانينيات لم يصدر طيلة عشرين سنة الأولى لنشأة الرواية في هذا البلد إلا حوالي ثلاثون نصا؛ يقول إدريس الناقوري (وعددها المنشور حتى الآن يتجاوز عشرين رواية..) وهو ما أكده أحمد اليابوري في قوله (ثلاثون رواية على امتداد عشرين سنة ) وهو عدد يقارب تقريبا ما صدر اليوم لروائي شاب بالكاد وصل عقده الرابع كربيع جابر ، أو عدد الروايات التي صدرت عن النساء في سنة واحدة في بلد حديث بالرواية كالسعودية مثلا، ورغم التطور الكبير في عدد الروايات الصادرة في الفترة المعاصرة فإن الإنتاج الكمي الروائي في العالم العربي لا زال دون مستوى الإنتاج المطلوب ، إذا ما علمنا أن في بلد واحد كفرنسا يصدر أكثر من 600 رواية كل سنة . وكان عبد الله العروي قد أرجع ضعف الإقبال على الرواية إلى عوامل كثيرة منها(تدني مستوى المعيشة ، الأمية الواسعة، ضعف انتشار الكتاب، النشاط الهزيل للنشر، ودور المرأة الثانوي وهي مستهلكة كبيرة للأدب في المجتمعات المتطورة…)
لكن مع ما عرفه العالم العربي خلال نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة من غزو العراق ونشوب حرب الخليج الثانية جعل الرواية العربية تدخل مرحلة مختلفة سنصطلح عليها بالرواية العربية المعاصرة.. نحن الذين اعتدنا اعتماد الأزمات مؤشرات في التحقيب والتأريخ لأدبنا العربي سواء القديم منه (نهاية العصر الإسلامي بمقتل علي، نهاية العصر الأموي بدحر الأمويين في موقعة الزاب وفخ، انتهاء العصر العباسي بسقوط بغداد..) أو الحديث : الاستعمار/ النكبة/ النكسة/ حرب الخليج الأولى والثانية … وهو ما سماه الأستاذ محمد برادة بلحظات الفورة والتجدد
ونحب منذ البداية توجيه قرائنا أننا اخترنا وصف (المعاصِرة = contemporaine) بدلا من أي وصف آخر للرواية موضوع بحثنا كالرواية الجديدة (nouveau )، الحديثة أو الحداثية (moderne) حتى نبتعد عن إصدار الأحكام من جهة، ولقناعتنا بكون مصطلحا كالحديثة أو الجديدة.. مصطلحا مشحونة بالمواقف وأحكام القيمة الهادفة لقطع الصلة بكل ما هو موروث، والحكم عليه بالسلبية مقابل الانتصار اللاـ مشروط لكل ما هو جديد، مما يضعنا أما ثنائية ضدية أحد أطرافها مقبول منشود ، والآخر مرفوض منبوذ، فيما يظل مفهوم المعاصرة مفهوما محايدا مرتبطا بالزمن ليس غير، قادر على أن يدخل في جبته كل من كتب في هذا العقد والنصف ويعتبره معاصرا ودون أن يمس بمكانة الرادة الأوائل ، فيما سيحتم علينا مفهوم الحداثة إقصاء روائيين عالجوا قضايا تقليدية، أو تبنوا الأسلوب التقليدي الكلاسيكي في الكتابة الروائية ، ونحن المقتنعون أن الرواية المعاصرة لم تشكل قطيعة مع ما سبقها، ولا اتخذت مواقف سالبة من التراث العربي أو الإنساني بدليل وجود روائيين انبنت أعمالهم على فكرة الانطلاق من شيء موروث، أو مخطوط قديم ، أو تصور الأحداث وقعت في مرحلة تاريخية قديمة … كما أن التركيز على المعاصر والذي نقصد به ما ألف في الألفية الثالثة سيسمح بالتركيز على فئة الشباب الذين لا ينالون حظهم من النقد ، دون أن يكون في ذلك أي إنكار لعمل الرواد ، إذ قد تكون رواية ألفت في الخمسينات أكثر حداثة من رواية صدرت اليوم، هذا ولقناعتنا أيضا بأن الرواية العربية كائن حي ولد في ظروف معينة، ونشأ وترعرع وتطور حسب حاجيات المجتمع الذي أصبح أكثر تعقيدا، فأنجب رواية معاصرة تساير هذا التعقيد لها بعض الخصائص التي تفردها كحضور الفردانية والدغمائية: فهيمن ضمير المتكلم بدلا من ضمير الغائب، وسعت إلى اعتماد لغة إيحائية تصويرية بعيدة عن التقريرية والمباشرة المألوفة في رواية الخمسينات والستينات التي التقطت أبطالها من حواف المجتمع ، وعوضت البطل الوطني الذي هيمن خلال مرحلة الاستعمار ببطل اجتماعي تمثل في الموظف والمقهور الذي كان يكابد الزمن من أجل تأمين لقمة العيش ، قبل أن تتورط روايات سبعينيات القرن العشرين في الإيديولوجيا بأن جعلت من الروائي رجلا حزبيا متعصبا لمواقفه السياسية يصب جام غضبه على من يعتبره عدوه الطبقي أو السياسي، أو غريمه الإيديولوجي فاستضافت الرواية بطلا رئيسيا جديدا تمثل في المناضل السياسي التقدمي المستعد لقضاء زهرة عمره في السجون من أجل مواقفه وأفكاره…
لكن الروائي المعاصر وإن سلط منظار سرده على شخصيات بسيطة وعادية من مختلف الشرائح فإنه تحول إلى ما يشبه الأنتروبولوجي والباحث في التراث الإنساني ينهل من الأساطير والرموز وينفتح على مختلف الأشكال التعبيرية محطما الحدود بين الأجناس الأدبية، فتميزت الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وإثارة الأسئلة الكبرى، أكثر من البحث عن الأجوبة، فوجد القارئ نفسه أمام روايات شعرية، وروايات دسمة حبلى بالأفكار والإحالات التاريخية الفكرية، الفلسفية ، الفنية .. كتابها منفتحون على السينما، التشكيل ، الفلسفة ، الأديان، الأسطورة، الحكاية الشعبية والأنتروبولوجيا، … فقدموا للقارئ روايات أقرب إلى كتب فكرية اعتمد فيها بعض الكتاب على مراجع ومرجعيات متعددة ، وكلفتهم عناء بحث طويل ، وليس أمام روايات تخييلية يختلي فيها الكاتب مع نفسه ليخرج للقارئ برواية إبداعية مصدرها الوحيد الإلهام والذاكرة وإن كان عدد لا بأس به من الروايات المعاصرة لا يرقى إلى مستوى فني يسمح بجعلها مادة للنقد والدراسة وتحول عدد منها إلى (ما يشبه الثرثرة التي لا تنضب اعجائز متقاعدين)…
ومع ذلك هناك عدد من الروايات التي لقيت نجاحا لقدرتها على تحويل الصراع من الواقع العربي العام إلى صراع داخل الذات ، جاعلة من الذات فضاء لمرايا متقابلة يتناسل فيها الدمار والعنف فشكل تيمات دمار القيم، دمار الذات، دمار الحياة تيمات أساسية في معظم الروايات فقدمت أبطالا غير أسوياء ، وكأن الرواية المعاصرة تركت العام العادي ومحورت متونها حول بعض الحالات الخاصة في المجتمع هكذا وجدنا منها ما يركز على:
– الأقليات الدينية كاليهودية كما في رواية (في قلبي أنثى عبرية لخولة حمدي) من تونس أو المسحية مثلما في رواية (طشاري ) للعراقية أنعام كشاجي وعدد من الرويات المصرية التي عالجت مشاكل الأقباط..
– الشذوذ الجنسي إذ وجدنا عددا كبيرا من الروايات المعاصرة تلامس بدرجات مختلفة موضوع الشذوذ في المجتمع العربي في مشارق العالم العربي ومغاربه من الكتاب الكبار كما فعل علاء الأسواني في (عمارة يعقوبيان ) أو من الشباب كرواية (العفاريت ) لأبراهيم الحجري من المغرب إذ أحد الأبطال يغرم بأثان ويفضلها على كل النساء .. ولم تتخلف النساء عن خوض معالجة موضوع الشذوذ برواياتهن في مختلف الأقطار العربية مغربا كما هو الحال في رواية (طريق الغرام) لربيعة ريحان إذ البطل الزوج يعاني الشذوذ ويحب أن يمارس عليه الجنس مما أثر في علاقته بزوجته عند اكتشافها لشذوذه، أو في الجزائر كما في اكتشاف الشهوة لفضيلة الفاروق حيث يمارس الشذوذ على البطلة من طرف زوجها السكير منذ ليلة الزفاف إلى أن طلقت منه دون أدنى احترام لمشاعرها وطقوسها الإسلامية ، وكذلك وجدنا في اليمن رواية (زوج حذاء لعائشة) للرواية نبيلة الزبير إذ الزوج (رجل الدين) يغتصب ويمارس الشذوذ على زوجاته الأربع حتى وهن خاشعات في صلاتهن وكثيرة هي الروايات التي جعلت من الشذوذ محور سردها…
والأكيد أن من يواكب جديد الرواية العربية يلاحظ مدى التركيز على الأبطال الذين يعانون القلق ،الخوف، الازدواجية في الشخصية ومختلف الأمراض النفسية ليتراجع حضور الرواية السياسية ورواية القضايا ، بل إغراق الروية العربية المعاصرة في التركيز على الذات بتقديم نماذج تمثل المفرد المنغلق الباحث عن الهدوء وراحته ( وراء الفردوس لمنصورة عزد الدين نموذجا ) فهمشت الرواية المعاصرة القضايا القومية وحتى القضية الفلسطينية التي ظلت تشكل محورا هاما في الرواية العربية بعد النكبة والنكسة كما كان في أعمال غسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهما، تراجع تأثيرها في الكثير من الأعمال الروائية، بل أكثر من ذلك هـُمِّشت القضايا الوطنية القطرية و القومية والإنسانية الكبرى لحساب القضايا الذاتية، فكان لكل شخصية روائية قضيتها الذاتية تبحث لها عن مخرج في واقع متشرذم فاسد يعمه الدمار والعنف حتى لكأنَّ روايتنا أضحت حسب تعبير جورج لوكاتش (تاريخ بحث منحط عن قيم أصيلة في عالم منحط) ، لذلك تميزت أفعال معظم أبطال الرواية العربية المعاصرة بطابع (التشيطن ) فتنوع الأبطال بين المحتال، المتملق ، المجنون ،المجرم الوصولي والأناني والمتطرف في كل شيء (في شرب الخمر، في الجنس ، في تعاطي الدعارة، وفي الدين…) وغيرها من الشخصيات التي لا تعير اهتماما للقيم في مجتمعات عربية تتجه نحو الفردانية والامتثال لقوانين اللبيرالية المتوحشة بشكل يستحيل معه أن نفصل بين ما ينسجه خيال روائيينا وما يدور تحت أقدامنا على الأرض العربية . ودون القول بالانعكاس الآلي الميكانيكي بين العالمين ، ولكن على الأقل عكس إحساس المبدعين بالعجز أمام التحديات الكبرى التي فرضت نفسها على واقعنا المعاصر، حتى وإن لم تكن بشكل واقعي صرف فعلى الأقل في إطار ما سماه لوكاتش (الواقعية الكاذبة للرواية)
وإن رأى البعض في كل ذلك عينا سوداوية ينظر بها كتاب الرواية إلى الواقع العربي ، فنحن نرى أن ذلك تعبيرا عن تعدد المرجعيات ، وتنوع زوايا النظر للواقع مما جعل من الرواية أطارا لكل المتناقضات قادرا على تمثيل مختلف الحساسيات والمرجعيات الثقافية وإعادة تشكيلها في قالب فني ولعل ذلك ما عجزت عنه عدة فنون أخرى، حتى ليمكن القول إن الرواية تمكنت من أن تقول (ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية) وكأننا بالرواية المعاصرة تغير وظيفة الرواية الأصلية حسب حسن مودن في قوله: ( إن الوظيفة المركزية للرواية لم تعد هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقا بل وظيفتها أن تكشف بطرقها الخاصة ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية حسب عبارة هرمان روخ) ففي الرواية فقط يمكن بناء مجتمع للمؤلف فيه الحق في السخرية من غطرسة الساسة الحاكمين، وعناد رجال الدين المتزمتين، وسذاجة البسطاء المغلوبين على أمرهم على قدم المساواة..
وبالقدر الذي يغرق في العالم العربي في التشرذم والاقتتال تعرف الرواية العربية انتعاشا غير مسبوق في الكم والنوع، وتتغلغل إلى ما لا يمكن أن تتغلغل إليه إلا الرواية، انتعاشا تساهم فيه كل الأقطار العربية بظهور مراكز ثقافية جديدة كانت مساهمتها إلى عهد قريب في الإبداع الروائي ضعيفة، فقدمت أقلاما شابة من المشرق والمغرب، ولم تبق ريادة الإبداع الروائي حكرا على المراكز الثقافية التقليدية (مصر والشام) وإنما انخرطت فيها وبقوة كل الأقطار والأمصار العربية (الخليج، المغرب العربي، العراق، اليمن..) فحاول كتاب كل قطر معالجة الخصوصية المحلية التي تميزه ( البدون في الخليج، القات في اليمن، الأمازيغية في المغرب العربي ، الأقليات الدينية في كل بلد، التدخل الأمريكي في العراق..) كما لم تبق الكتابة الروائية حكرا على الرجال واقتحمت غمارها أقلام نسائية تفوقت في أحيان كثيرة على الذكور…. وقد حتم هذا الزخم الروائي على الأدب العربي النزول من على صهوة جواد الشعر وركوبه ظهر الرواية التي غدت قاطرة الكتابة الإبداعية لدى العرب بامتياز، بعدما تمكن الروائيون الجدد من تطوير فن الممارسة الإبداعية شكلا تعبيريا وجعلوها أكثر أشكال التعبير قدرة على تصوير تشظي الذات والمجتمع العربيين في هذه الفترة، وأضحت النوعَ الأدبي النموذجي الأنسب للمرحلة ، المــُولِّد والحاضن لأشكال أخرى، فرضت نفسها بقوة، خاصة (المسلسلات التلفزيونية، السينما، المسرح..) التي تتخذ من النص الروائي منطلقها … فكانت الرواية بذلك أقدر الأجناس الأدبية على التقاط تفاصيل وذبذبات العصر في وقت كادت بعض الأجناس أخرى تقف عاجزة عن مسايرة سرعة وإيقاع التفاعلات المتلاحقة.. إذ تربع الرسم على عرشه العاجي بعيدا عن الواقع بانيا جدارا سميكا بينه وبين فئات واسعة من العرب التي تعتبره فنا نخبويا لا يلامس واقعها فلم يتمكن من كسب ود الجماهير، كما بقيت الأغنية تفرّق كـؤوس الهوى،الحب والغرام على جمهور أشد ما يفتقر إليه هو الحب .. وفضل الشعر أخذ قيلولة – نتمناها مرحلية- أبعدته عن اهتمامات الإنسان العربي المعاصر ، جعلت من الشعر ـ رغم كثرة الدواوين الصادرة ـ صيحة في واد غير ذي زرع ، الشعراء فيه يرددون (لا حياة فيه لمن ينادي…) والقراء من الشباب يتساءلون لماذا لازال هؤلاء الشعراء يكتبون ؟
مقابل كل ذلك حملت الرواية على عاتقها اقتحام عبابَ يمٍ متلاطمة أمواجه عصي على الفهم: واقع يقوم على صراع نوعي وكمي مختلف عن كل تجليات الصراع المعهودة التي نظر لها الفلاسفة والمفكرين كصراع الأجيال والصراع الطبقي وصراع الأديان والحضارات… إذ وجد العربي نفسه في لج مرايا متقابلة وصراع وقف أمامه مشدوها لا يعرف فيه الصديق من العدو، ولا يعرف من يصارع من؟ وكل ما يراه أشلاء الموتى في كل زاوية دون أن يدرك من يقتل من؟ ولأية أهداف يتقاتل العرب؟ ولماذا غدت بلاد العرب والمسلمين على كف عفريت وبؤرة صراع في وقت تنعم باقي بلدان المعمور بالسلم والطمأنينة؟ لكن مقابلها تصوير الواقع فهل تؤثر الرواية العربية في واقعها ؟؟ هذا سؤال من الصعب الإجابة عنه أما ضعف نسب قراءة الرواية والقراءة بمعناها العام في أوطاننا العربية !!
هكذا وجد الروائي العربي المعاصر نفسه يجمع بين الفنان،المصلح ومؤرخ الحياة الخاصة والعامة الميال إلى التقاط أقصى قدر من تفاعلات المجتمع العربي مقتنعا أن لا مناص لأداء مهمته من تصوير تفاصيل تناقضات شخصياته، وإماطة اللثام عن الجروح الغائرة في الجسد العربي ، فحق لنا القول إن الرواية غدت النوع الأدبي الأكثر نموذجية لواقعنا العربي وأنها أصبحت (شريحة من الحياة) ، وهذا ما يفسر ذلك النجاح الذي حققته بعض الأعمال التي طبعت عشرات المرات في وقت وجيز (عزازيل ليوسف زيدان طبعت أزيد من 20 طبعة، ساق البامبو لسعد السعنوسي طبعت أزيد من 12 طبعة في سنة واحدة بمعدل طبعة في كل شهر ) وقس على ذلك عددا من الأعمال الناجحة …
يتضح لك عزيزي القارئ أن الرواية العربية المعاصرة إذن أصبحت نوعا من الكتابة تميز بخصائص يتحتم علينا الاقتراب منها لقناعتنا حسب تعبير بيرسي لبوك أن (هناك العديد من المواد المختلفة الواضحة للعين المجربة وضوح الحجر والخشب تدخل في بناء الرواية ومن الضروري معرفة الغاية منها) مرتبط زمنيا ببداية الألفية الثالثة، وما أنتجه الساردون العرب في حوالي العقد ونصف من مطلع القرن الواحد والعشرين، وفنيا بخصائص في الكتابة السردية لم يكن للعرب عهد بها، وطريقة أملتها ظروف المرحلة التي ساهمت في خلق تراكم كمي غير مسبوق … وهو نتاج زاخر يكاد يفوق ما أنتج في عقود من التأليف الروائي…
لكن هذا النتاج الروائي الضخم للرواية المعاصرة لم يصاحبه ما يستحق من النقد حتى يقوّم بعض اعوجاجه ويساعده على تشكيل كيانه الخاص، ذلك أن الرواية العربية بعد نتاج الستينيات والسبعينيات مع مؤلفين كبار أمثال نجيب محفوظ ، عبد الرحمان منيف ، سهيل إدريس، يوسف السباعي .. والتي واكبها نقد أكاديمي حافل، دخلت في العقد الأخير من القرن العشرين مرحلة انتقالية ، شاخت فيها الأقلام المؤسسة إبداعا، وتعبت الأقلام الناقدة، ولم تستطع الأقلام الشابة فرض قلمها بعد، فعاشت الرواية ما يشبه مرحلة انتظار ومرت من سنوات شبه عجاف، كاد ينضب فيها معين السرد العربي… لكن ما أن هلت الألفية الجديدة، وما صاحبها من أزمات توالت على العالم العربي بعد حرب الخليج الثانية واجتياح الكويت ، وسقوط بغداد وتفجير الربيع العربي وغير ذلك من الأحداث التي زلزلت الأرض تحت أقدام المبدعين، فأوقدت الإبداع الروائي من سباته مكرسا مقولة ازدهار الإبداع الأدبي في مراحل الصراع والأزمات السياسية؛ ولنا في العصر الجاهلي – حيث صراع القبائل- والعصرين الأموي والعباسي – حيث الفتوحات والصراع مع الفرس والروم- وعصر الطوائف في الأندلس .. حتى تدفق نبع الرواية المعاصرة . لنؤكد أن الرواية عرفت بعد حرب الخليج الثانية وما عقبها من صراعات إنتاجا كميا ونوعيا بتأليف عشرات الروايات في مشارق الوطن العربي ومغاربه، نعلن منذ البداية صعوبة مواكبتها كلها مكتفين بالوقوف على بعض ما سمحت لنا الظروف بقراءته ومعالجته في هذا الجزء.. ومقابل هذا السخاء في الإبداع يلاحظ تراجع النقاد للظل، فقل التنظير الروائي مقارنة مع مرحلة السبعينيات، ووهنت همم النقاد في متابعة الجديد، بعدما حطمت الرواية الحدود التقليدية، وتخلصت من جلباب الأكاديمي الذي ظل يأسرها، فخرجت الرواية المعاصرة من أسوار الجامعات والمعاهد، وبحثت لنفسها عن تربة جديدة فاستطاعت تقديم أقلام شابة جريئة لها رؤيتها للعالم من حولها، واستطاع التيار أن يجرف معه من لا زال قادرا على العطاء من مبدعي جيل السبعينات …
إن الرواية المعاصرة لم تجعل نفسها سجينة نمط واحد، ولم تبلغ شكلها النهائي بعد، وإنما حاول بعض الروائيين المعاصرين الانفتاح والاستفادة من الأشكال التراثية خاصة أدب الرحلة كما وجدنا في روايتي النبطي ليوسف زيدان، ورواية تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية لعبد الرحيم الحبيبي… ومنهم من هام في العجائبية ينسج أحداثا في عالم افتراضي خيالي يستحيل لعقل تصوره كما في روايتي ضريح أبي لطارق إمام ، وفرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي، ومنهم من غاص في التاريخ القديم أو الوسيط كما فعل يوسف زيدان في روايتيه عزازيل والنبطي، وربيع جابر في رواية دروز بلغراد، وعدد منهم التفت للتاريخ القريب: سواء زمن ما قبل الاستعمار (تغريبة العبدي) أو زمن الاستعمار وما بعده والصراع حول السلطة والشرعية بين نخبة من السياسيين المثقفين وخلفاء الاستعمار وجعل تيمات الوطنية ، الاعتقال والسجون (مثلما وجدنا في الساحة الشرفية لعبد القادر الشاوي ورواية طائر أزرق نادر يحلق معي ليوسف فاضل من المغرب..) مادة للكتابة الروائية المعاصرة كمعطيات تاريخية ، لكن الكتابة الروائية تتجاوز نظرة المؤرخ وإن اتخذت من التاريخ موضوعا للتخييل ، دون أن يمنع ذلك كتاب الرواية الشباب من مقاربة القضايا الاجتماعية المستحدثة كالإرهاب منا في رواية (القوس والفراشة لمحمد الأشعري) ، والعنف/ التسامح كما في رواية (في قلبي أنثى عبرية) لخولة حمدي من تونس، والاستعمار الجديد والتطرف الديني كما في (حرمة) لعلي المقري و رواية زوج حذاء لعائشة الزبير ، والطائفية في الوطن العربي رواية أوهام لنازك سبا يارد…، ، توسع المدن/ استغلال النفوذ والصراع حول السلطة ( القوس والفراشة )… ناهيك عن القضايا التقليدية كالجنس وضعية المرأة في الوطن العربي التي شغلت حيزا هاما في الرواية المعاصرة لدرجة لا تكاد تخلو رواية من إشارات جنسية تصريحا لأو تلميحا بل منها ما جعل من الجنس ـ كاتبا كان أو كاتبة ـ بؤرة روايته/ها الأساسية…
أما من حيث الشكل فقد اتجهت عدة روايات إلى تكسير قواعد الكتابة الروائية الكلاسيكية؛ بالتخلي عن السرد الخطي التصاعدي المتسلسل ، واللجوء إلى تكسير المسرود واعتماد نظام الفوضى في تقديم أحداث عمله لدرجة قد يشعر قارئ بعض الأعمال غياب ذلك الخيط الرابط بين تفاصيلها. نتيجة الإسراف في التكرار والتركيز على تفاصيل ،قد تبدو لمن اعتاد قراءة الأعمال الكلاسيكية ، غير ذات جدوى، عندما يغرق الأبطال في سرد معاناتهم الشخصية في ظل الواقع العربي المأزوم الذي يستحيل على مخيال الروائي تقديم حلول له لذلك حاول بعض الروائيين الهروب من (الآن) إلى الماضي فحكت عدة روايات أحداثها في الماضي والهروب من ال (هنا) بأن هربت بالأبطال إلى خارج الحدود العربية فهربت فوزية شويش السالم في (سلالم النهار) بطلتها إلى مكان معزول على قمة جبال ولاية مسندم الواقعة على رأس مضيق هرمز، وطاف كل علي المقري ، وفضيلة فاروق، وبثينة العيسى، وسعد السعنوسي ومحمد الشعري … بأبطالهم في عوالم كثيرة بعيدا عن الواقع العربي
إن الرواية العربية المعاصرة تعرف تدفقا هادرا ، وزاد من هذا التدفق إنشاء مسابقات وطنية، جهوية وقومية شجعت المبدعين على الكتابة والتباري.. ساهمت في سطوع أسماء جديدة وإخراج الكتابة الروائية من جُبّ ما هو أكاديمي، لتغدو تعبيرا عن الحساسية العربية الراهنة وفي مؤلفات دسمة وضخمة من حيث الحجم تجاوز بعضها الخمسمائة صفحة ، دون أن يقف الحجم أمام شهية القارئ العربي النهم لكل ما هو جيد ، فأزاحت الشعر من على برجه العاجي واقتنع معظم الشعراء بدواوين في بضع صفحات، بعدما ضاعفت الرواية المعاصرة من سرعتها مع تزايد قرائها ، وكثرة إصداراتها إبداعا فاستحقت لقب (ديوان العرب المعاصر) وهو تدفق لم يواكبه –للأسف- نفس التدفق في النقد الروائي تنظيرا وتحليلا، فظل عدد من الروائيين تائهين كمن يقود سفينة دون بوصلة، وفي غياب المصاحبة النقدية تجن على بعض الأعمال الجادة التي لم تجد من يوصلها للقارئ.. وتجن على بعض المواهب التي كانت في حاجة إلى تنبيهها لعيوبها لتتجنبها في أعمالها اللاحقة.. خاصة وأن الرواية تمكنت تصوير الواقع والغوص في نفسية وشخصية الإنسان العربي ولم تترك شيئا ماديا أو معنويا مرتبطا بهذه الشخصية إلا شرحته وفصلت فيه لتبقي ( رواية جميلة ) للروائي العربي المصري عبدالواحد محمد والتي صدرت أول طبعاتها من عام 2016 من دار فيسبرا بالجزائر وبلغت عدد صفحاتها ربعمائة صفحة من القطع المتوسط وجسدت الواقع العربي فكرة وموضعا من خلال تفاعل بطل الرواية عبود السرجاني الذي ولد بالحي الحسيني بالقاهرة وعاش فيه بمشاعر عربية وهو يلتقي مع عالم أصدقاءه في الجزائر عندما زارها للمرة الأولي وتحولت فكرته الروائية من فكرة إلي واقع وهو يستدعي شهداء الجزائر بعض منهم في عمله الروائي الذي تناول فيه سيرة هؤلاء الشهداء بل تتطرق إلي مدينة الجسور المعلقة قسطنطينية بكل معالمها التاريخية وكينونتها النضالية التي شهدت تحولات فلكية في زمن الملهم (بن باديس ) الذي أعاد للمرأة الجزائرية قوتها ومنحها الحق في التعلم فكان بن باديس مبدعا وليس رجل دين تقليدي كما كان ملهما في كل أطوار رحلته الفكرية كما كانت رواية جميلة حبلي بكل شخصيات الوطن العربي التي كتبت عدة قصائد في رفض الهيمنة الاقتصادية علي الدول التي تعاني حصارا وترتدي ثوب الفقر رغم ثراها جاءت من رحم عروبة الديار وفلسفة الأجداد وشفافية أصدقاء الوطن ولا ريب أكدت رواية جميلة للروائي العربي عبدالواحد محمد رافضها للأفكار الجنسية الشاذة ودمار الأوطان مهما كانت ردة عقل !!
ويقينا تبقي الرواية العربية محط أنظار قراءها الذين يعيشون زمن الإنترنت والفيسبوك الذي جعل من الرواية العربية الوجع والمتعة والقدرة علي ان تحلق بكل جناحيها إلي سماء المتلقي !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
– في الأدب المغربي المعاصر (سلسلة دراسات تحليلية) – أحمد المديني دار النشر المغربية 1985 – ص – 39
) – الرواية العربية ـ المتخيل وبنيته الفنية . بمنى العيد . دار الفارابي ط1 بيروت 2011 ص 142
ـــ الرواية العربية – المتخيل وبنيته الفنية – ص 75 – 152
– انظر كتاب الإديولوجية العربية المعاصر – عبد الله العروي – دار الحقية – ط3 بيروت 1979 ص 157 وما بعدها
– المقصود هنا رواية (سلوى ) لجوليا صوالحة
– الرواية المغربية – مدخل إلى مشكلاتها الفكرية والفنية – إدريس الناقوري – سلسلة دراسات تحليلية دار النشر المغربية 1983 ص 19
– في الأدب المغربي المعاصر. أحمد المديني . ص 39
– عن الرواية العربية ورهانات التجديد – محمد برادة . سلسلة إبداع عربي الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 1 القاهرة 2012 ص – 201
– الإيديولوجية العربية المعاصرة . عبد الله العروي . ص 159
– الرواية العربية ورهاانات التجديد – ص – 15
– سيصدر لنا قريبا جزء ثاني عن الرواية العربية المعاصرة بنون النسوة
– عن كتاب الشكل القصصي في القصة المغربية ج 1 عبد الرحيم مودن منشورات دار الأطفال ط1 1988 – ص – 25
– ص – الرواية كملحمة بورجوازية ت ـ جورج طرابيشي دار الطليعة بيروت ط 1 1979 ص ـ 74
الرواية والتحليل النصي قراءة من منظور التحليل النفسي حين مودن الدار العربية للعلوم ناشرون ط1 2009 ص- 141
بنية النص السردي من منظور النقد – لحمداني حميد – المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع – ط1 1999 – ص 14
– التخييل وبناء الخطاب في الرواية العربية . عبد الفتاح الحجمري شرمة النشر والتوزيع المدارس ط2 البيضاء 2002 ص 39
رواية جميلة للروائي العربي عبدالواحد محمد من مصر دار فيسبرا للنشر والتوزيع بالجزائر ص 2 ص 100 عام 2016 م