Thursday , 21 November 2024 KTM College
Literature

الجذور التاريخية للنظرية السياقية

30-October-2020
د. شريفة اليزيدية
جامعة الإمارات العربية المتحدة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ومحررة مشاركة لمجلة "KTLYST" الإلكترونية الدولية الصادرة عن كلية كى تي يم للدراسات المتقدمة، كرووفاراكند، ملابرام

 إنَّ المتأمل في الدراسة اللسانية في الثقافة الإنسانية المعاصرة يلاحظ أنَّ السياق أضحى مرتكزًا أساسًا في أي مقاربة لسانية للأنساق اللغوية، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور نظرية سياقية متكاملة لها مرجعيتها ومفاهيمها وإجراءاتها التطبيقية؛ لذلك فإننا في هذا المقال سنلقي نظرة على جذور النظرية السياقية عند الأمم التي عُرفت بحضاراتها العريقة كالهنود واليونان والعرب.
أولاً: السياق اللغوي عند الهنود:
السياق اللغوي له جذور قديمة عند علماء الهنود، فقد درس الهنود لغتهم السنسكريتية على مستوى من الدقة خاصة في مجالي الأصوات والنحو ، فنجد أنَّ أحد علمائهم المسمى (بانيني ) ( ) وصف الخصائص النحوية اللغوية للغة السنسكريتية، وكانت دراستهم تعتمد على الأصوات المنطوقة واللغة المكتوبة دون الالتفات إلى الظروف والملابسات التي تحيط بالحدث اللغوي؛ أي أنَّ دراستهم اعتمدت على السياق اللغوي دون سياق المقام، إلا أنَّنا نجد في بعض دراساتهم ما يدل على اهتمامهم بالسياقين معًا، ومن ذلك ما ذكر عن أحد علمائهم المسمى ( ياسكا ) الذي وضع كتابًا في علم الاشتقاق سماه ( النيروكتا ) بأنه كان يحاول أنْ يوضح معاني الكلمات ويربط الكلمة بأصلها الاشتقاقي ويتطرق إلى بعض الأحداث الاجتماعية لهذه الكلمات ، مما يشير إلى اهتمامه بالسياق اللغوي وسياق المقام معًا ( ).
وأهم ما يميز الدراسات اللغوية الهندية ما يلي :
1- البدء بجمع المادة اللغوية وتصنيفها ، ومن ثم الانتقال إلى استخلاص القواعد منها .
2- حدد اللغويون الهنود أقسام الكلام قبل اليونانيين إلى ( اسم – فعل – حروف إضافة – أدوات ) .
3- حللوا أقسام الكلام إلى عواملها الأولية فميزوا بين الجذر والزيادة .
4- عرف اللغويون الهنود الأعداد الثلاثة: المفرد، والمثنى، والجمع .
5- قسموا الفعل في اللغة السنسكريتية إلى أزمنة ثلاثة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. ( )
ثانيا: السياق اللغوي عند اليونانيين :
بدأ التفكير اللغوي عند اليونانيين مرتبطا بالفلاسفة، ولذلك نجد أسماء اللغويين اليونانيين الأولين هي نفسها أسماء فلاسفتهم الأولين ، فنجد سقراط يدلي بآرائه في بعض المشكلات اللغوية ، ويليه أفلاطون ( 348 ق.م إلى 428 ق.م ) ثم أرسطو (322 ق.م إلى 384 ق.م) وقد عد الباحثون أفلاطون رائد الدراسات النحوية اليونانية ، وأول من فحص المشكلات النحوية ، وهو أول من فرق بين الاسم والفعل، كما أنّه قسم الأصوات إلى ثلاثة أقسام: أصوات العلة - الأصوات الساكنة المجهورة – الأصوات الساكنة المهموسة. ثم جاء أرسطو وزاد قسمًا ثالثًا على الاسم والفعل وسماه رابطة؛ لأنَّه شعر أنَّ الأفعال والأسماء تؤدي معاني مستقلة في حين أنَّ سائر الكلمات ليس لها إلا الوظيفة النحوية فقط.( )
ظهر بعد ذلك الرواقيون الذين زادوا قسمًا رابعًا ثم خامسًا إلى أقسام الجملة الثلاثة عند أرسطو، كما قدموا شروطا مستفيضة لآراء أرسطو اللغوية.( )
ويمكنا أن نجمل السياق اللغوي عند اليونانيين في أمرين:
1- السياق اللغوي عند اليونانيين يقوم على علاقة الكلمات والعبارات بعضها ببعض على مستوى النص المكتوب أو المنطوق.
وقد تحدث اليونانيون عن سلامة الأسلوب، وأشاروا إلى عنصر التوافق والتخالف بين الكلمات على مستوى الجملة أو العبارة.( ) وفي ذلك يقول أرسطو: " وأما الألفاظ فإن بدء ما يحتاج إليه فيها أن تَعْلَمَ اليونانية، وأول الوجوه في ذلك ما قد يستعمل في الرباطات المنطقية إذا المتكلم حاذى بها على ما هي متهيئة أن تكون عليه في التقدم والتأخر وما بين بعضها فإنَّ منها ما يتقدم ومنها ما يأتي بعده " ( )
2- اهتم اليونانيون بدلالة الكلمة من خلال سياقها ( )، فنجد أرسطو يقول: " وقد يكون القول خفيًا إذا لم تتبعه بما يتصل به، وأردت أن تدخل في الوسط كلاما كثيرًا كما تقول: إني كنت مزيفا حيث تكلمت فكان ها هنا كذا وكذا بأن أشخص، تريد بذلك: إني كنت مزمعًا حيث تكلمت بأن أشَخّصَ فكان ها هنا كذا وكذا، وهذا يشاكل إن لم يستعمل في معونة الألفاظ مما قد يجوز أن يستعان به في الألفاظ " ( )
نلاحظ هنا أنَّ أرسطو كان يرى أنَّ الغموض أو عدم وضوح المعنى قد يقع عندما يحتمل التركيب أكثر من معنى بسبب بنيته النحوية.
ثالثا: السياق اللغوي عند العرب:
إنَّ دراسة أي نص يجب أنْ تقوم على دراسته لغويًا من خلال علاقات ألفاظه بعضها ببعض ، والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ وما يترتب على تلك العلاقات والروابط من دلالات جزئية وكلية.
واستنادًا إلى ذلك فإنَّنا إذا نظرنا في تراثنا العربي فإنَّنا نجد علماءنا القدامى قد حكموا عناصر السياق اللغوي في دراسة علومهم المتنوعة ، وأشاروا إليها تحت أبواب متنوعة تنضم في النهاية تحت باب الدراسة اللغوية للنصوص، إلا أنَّهم لم يعتدوا به مصطلحًا قائمًا في العلوم التي درسوها.( ) وإنْ كان علماؤنا القدامى قد ذكروا لفظ السياق في بعض مصنفاتهم إلا أنَّهم اختلفوا في دلالة هذا المفهوم وتفرقت مشاربهم .
وبالنظر في تراثنا العربي القديم فإنّنا نلحظ وجود إشارات متفرقة لأهمية دلالة السياق اللغوي في تحديد المعنى ، فهذا الشافعي (204 هـ) يحدد بابًا في رسالته أسماه ( باب الصنف الذي يبين سياقه معناه) وذكر دارس الرسالة أنَّ الشافعي أشار إجمالا إلى أنَّ من أساليب العرب أنّهم قد يطلقوا لفظا ظاهرًا ، و يعرف من سياقه أنَّه يراد به غير هذا الظاهر ، وقد استدل الشافعي لذلك بعدد من الأمثلة منها قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴿١١﴾)(الأنبياء: ١١) حيث يقول الشافعي: " فذكر قصم القرية فلما ذكر أنّها ظالمة، بان للسامع أنَّ الظالم هم أهلها، دون منازلها التي لا تظلم ...."( ) فيتضح من قول الشافعي أنَّ لفظ القرية أراد الله به أهل القرية، و هذا فهم من سياق الآية أي نظمها وسياقها اللغوي الذي يتضح منه أنَّ الظلم يقترن بأهل القرية لا بالمنازل الجامدة.
وقد ذكر السرخسي (490 هـ) في أصوله في باب بيان الأحكام الثابتة بظاهر النص دون القياس والرأي حين قسم الأحكام إلى أربعة أقسام : الثابت بعبارة النص ، والثابت بإشارته ، والثابت بدلالته ، والثابت بمقتضاه . فقال : " فأمّا الثابت بالعبارة فهو ما كان السياق لأجله ويعلم قبل التأمل أنَّ ظاهر النص متناول له ، والثابت بالإشارة ما لم يكن السياق لأجله لكنّه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان وبه تتم البلاغة ويظهر الإعجاز ..... ومن ذلك قوله تعالى:(... وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ...)(البقرة: ٢٣٣) فالثابت بالعبارة وجوب نفقتها على الوالد فإن السياق لذلك، و الثابت بالإشارة أحكام منها أن نسبة الولد إلى الأب لأنّه أضاف الولد إليه بحرف اللام فقال: " وعلى المولود له : فيكون دليلا على أنّه هو المختص بالنسبة إليه ، وهو دليل على أن للأب تأويلا في نفس الولد وماله ؛ فإنَّ الإضافة بحرف اللام دليل الملك ...."( )
يتضح من كلام السرخسي أنَّه قصد السياق اللغوي حين تحدث عن تفسير الأحكام، فسياق العبارة عنده معتمد على نظمها اللغوي وعلاقة ألفاظها بعضها ببعض، وهذا واضح من قوله في جعل ملكية الولد في نفسه وماله لأبيه بسبب إضافة الولد إلى حرف اللام في قوله تعالى:(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ويقول ابن قيم الجوزية (751هـ) :" السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطاق وتنوع الدلالة. وهذا من أعظم القراءة الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49) كيف تجد سياقه يدل على أنَّه الذليل الحقير"( ) فابن القيم هنا يؤكد على أهميةَ السياق اللغوي في تحليل النصوص ويعد إهماله خطأ يؤدي إلى مغالطة في فهم النص، ففي قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان: 49)صفة (العزيز الكريم) تعني الذليل الحقير استنادًا إلى المعنى السياقي للآية الكريمة؛ حيث إنَّ سياق الآية كان يتحدث عن الكافر وعذابه في الآخرة والسياق اللغوي للآيات السابقة من ألفاظ وتراكيب تسوق إلى معنى الذل والحقارة التي سيؤول إليها الكافر.
كما نجد الشاطبي ( 790 هـ ) يقول : " كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ ، وإلا صار ضحكة وهَزْءَةً …."( ) فهو هنا يؤكد أهمية اعتبار السياق في دلالة الصيغ لما لها من دور في إقرار المعنى الصحيح .
ويقول في تفسير قوله تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿٨٢﴾) (الأنعام82 ) " فإنَّ سياق الكلام يدل على أنَّ المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص ، فإنَّ السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد ، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه "( ) فنلاحظ إقرار الشاطبي بالنظر إلى محتوى السورة ككل مما يؤكد اهتمامه بالسياق اللغوي للآية والسورة كاملة ليخلص إلى أنَّ المقصود بالظلم هو أنواع الشرك بناء على السياق اللغوي للسورة بأكملها .
ويقول في موضع آخر : " والقول في ذلك كله – والله المستعان– أنَّ المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ، فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم، والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها ، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها ، فإنَّ القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض ، لأنّها قضية واحدة نازلة في شيء واحد ، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف "( ) وهذا يؤكد اهتمام الشاطبي بالسياق اللغوي والنظر إلى أول الكلام وآخره وتعلق الجمل ببعضها البعض .
كما تناول عدد من علمائنا العرب القدامى مفهوم السياق تحت مسميات أخرى متعددة، من هؤلاء العلامة عبد القاهر الجرجاني (474هـ) حيث تناول مفهوم السياق تحت مسمى ( معنى المعنى ) فنجده يقول:" المعنى، ومعنى المعنى، تعني ( بالمعنى ) المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، و(بمعنى المعنى ) أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر.... فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها، أو يجعلون المعاني كالجواري، والألفاظ كالمعارض لها، وكالوشي المحبر واللباس الفاخر والكسوة الرائقة، إلى أشباه ذلك مما يفخمون به أمر اللفظ، ويجعلون المعنى ينبل به ويشرف، فاعلم أنّهم يصفون كلامًا قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق معنى المعنى، فكنـّى وعرَّض، ومثـَّـل واستعار، ثم أحسن في ذلك كله وأصاب، ووضع كل شيء منه في موضعه، وأصاب به شاكلته، وعَمَد فيما كنـّى به و شبّه ومثـّـل، لِما حَسُن مأخذُه، ودقَّ مسلكه ، ولـَطـُفت إشارته ...."( ) فمن خلال ما عرض الجرجاني من التفريق بين المعنى ومعنى المعنى، نجده يوضح معنى المعنى بأنه ليس المعنى المراد ظاهريا من اللفظ، بل المعنى الذي نصل إليه بعد النظر في ألفاظ النص وتراكيبه وعلاقتها ببعضها البعض لتكون نصا متكاملا متناسق الألفاظ والتراكيب.
كما تناول الإمام ابن قيم الجوزية السياق اللغوي تحت مسمى المناسبة أو التناسب، فقد عرفه بأنه " ترتيب المعاني المتآخية التي تتلاءم ولا تتنافر،.... وتكون المعاني مناسبة لألفاظها "( ) ويقصد بذلك ترابط العلاقات المعجمية والدلالية بين الألفاظ في التركيب اللغوي ، وقد شاع استخدام لفظ (المناسبة) كثيرا بين علماء القرآن من مفسرين وفقهاء في مختلف مصنفاتهم للدلالة على السياق اللغوي كما سنلاحظ في الفصل الثاني من هذه الأطروحة.
وبذلك يتضح لنا أنَّ علماءنا العرب القدامى عرفوا السياق اللغوي واستخدموه في مختلف مصنفاتهم تحت مسميات مختلفة كمعنى المعنى، وسياق العبارة، والمناسبة.
وخلاصة القول فإن للنظرية السياقية جذورا تاريخية في اللغات ذات الحضارات العريقة كالهندية واليونانية والعربية؛ حيث إن هذه الحضارات عرفت السياق اللغوي في لغاتها واستثمرته في مؤلفاتها التي أصبحت فيما بعد أساسا في النظرية السياقية الحديثة.

 


المصادر والمراجع

1- ابن قيم الجوزية، الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن، د.ط،دار الكتب العلمية،بيروت،1960.
2- ابن قيم جوزيه، بدائع الفوائد، (د.ط)، دار الكتاب العربي، ببيروت،1970.
3- أحمد مختار عمر، البحث اللغوي عند العرب، ط6، عالم الكتب، القاهرة، 1988.
4- أرسطوطاليس، الخطابة، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 1939.
5-السرخسي، أصول السرخسي، تحقيق: أنو الوفاء الأفغاني، ج1، د.ط، دار المعرفة، بيروت، 1973.
6- الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام، تحقيق: محي الدين عبد الحميد، ج3، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1969.
7- الشافعي، الرسالة، إعداد ودراسة: محمد نبيل غنايم، ط1، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1988.
8- ردة الله بن رده الطلحي، دلالة السياق، ص41. وانظر أيضا: عبد النعيم خليل، نظرية السياق بين القدماء والمحدثين.
9- عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1984.
10-عبد النعيم خليل، نظرية السياق بين القدماء والمحدثين، د. ط، د.ت.