Thursday , 21 November 2024 KTM College
Literature

الأستاذ أنيس منصور وموهبته في كتابة الرحلات

30-October-2020
عبدالرحمن
باحث في مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي، الهند

 إن الكاتب المصري الأستاذ أنيس منصور ليس جديداً على أحد من قراء العربية، هو في عداد المصريين البارزين الذين لهم سمعة طيبة على الصعيد العالمي فيلسوفاً وأديباً. وقد نال شهرة بأفكاره الفلسفية في إبداعاته الأدبية، وحاز على كثير من الجوائز الأدبية من مصر وخارجها، منها جائزة الدولة في أدب الرحلات عام 1963. وقد خلده في جبين التاريخ مؤلفات تبلغ مائتين. أمتع ملايين القراء بكتاباته في أدب الرحلات حيث سافر إلى العديد من بلدان العالم وألف العديد من كتب الرحلات ما جعله أحد رواد هذا الأدب منها : حول العالم في 200 يوم، اليمن ذلك المجهول، أنت في اليابان، بلاد الله لخلق الله، غريب في بلاد غريبة، أعجب الرحلات في التاريخ، أطيب تحيات من موسكو، أنت في اليابان.
ولد الفيلسوف والكاتب الصحفي أنيس محمد منصور في 18 أغسطس عام 1924م في قرية كفرالباز (بالقرب من مدينة المنصورة) بمحافظة الدقهلية، مصر. حفظ القرآن الكريم كاملاً وهوفي سن التاسعة عند كتاب القرية. درس وتعلم بمدرسة أبي حمص وأنهى بها دراسته الابتدائية. وفي عام 1943م حصل على التوجيهية من مدرسة المنصورة الثانوية، وكان متفوقا في دراسته الثانوية حيث كان الأول على كل طلبة مصر حينها، واشتهر بالنباهة والتفكير المنطقي السليم منذ صغره. إذا جاءت حصص اللياقة البدنية كان المدرسون يقولون له كما هوذكر في كتابه "عاشوا في حياتي": "بلاش كلام فارغ، انتبه لدروسك ومذكراتك، الأولاد دول بايظين"،هذا لأنهم كانوا يرون فيه مستقبلا باهرا وشخصية فريدة.
وبعد إكمال دراسته الثانوية، التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة برغبته الشخصية، دخل قسم الفلسفة الذي تفوق فيه، وحصل على ليسانس آداب عام 1947، وكان على درجة كبيرة من الفضول العقلي.. كان يبحث عن قيم جدية لنفسه ولمجتمعه.. لذلك كان من أكثر الطلاب محاورة مع أساتذته.. د. عبدالرحمن بدوي و د. لويس عوض و د. شوقي ضيف و د. يوسف مراد والشيخ مصطفى عبدالرزاق و د. علي عبدالواحد وافي.
عمل مدرساً للفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة عين شمس من عام 1954م حتى عام 1963م. وكان شغوفا ومحبا للصحافة وخاصة الكتابة ولذلك ترك التدريس للعمل في الصحافة وكان أول عمل له بالصحافة في مؤسسة أخبار اليوم، وشغل لاحقا منصب رئيس تحرير عديد المجلات والصحف منها "الجيل" و"هي" و"آخر ساعة" و"أكتوبر" و"العروة الوثقى" و"مايو" و"كاريكاتير" و"الكاتب".
كان الأستاذ أنيس منصور مولعاً بالقراءة والمطالعة منذ نعومة أظفاره، ذات مرة قال في مقابلة تلفزيونية متحدثا عن حبه الشديد للمطالعة: " إني ولدت والكتاب في يدي ". وكان منصور يجيد عدة لغات منها العربية والإنجليزية والألمانية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والروسية. فترجم العديد من الكتب الأوروبية إلى العربية بالإضافة إلى ترجمة العديد من المسرحيات بعدة لغات. كتب في مجالات عديدة: الترجمة الذاتية والسير والقصص، وأدب الرحلات، والمسرحيات والمقال الصحفي كما كتب في موضوعات مختلفة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الحب والمشاكل الاجتماعية وفي ما وراء الطبيعية والدراسات العلمية والنقد الأدبي. بلغ عدد مؤلفاته حوالي مائتي كتاب.

حصل منصور عدة جوائز منها جائزة الفارس الذهبي من التلفزيون المصري أربع سنوات متتالية، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 1981م، وجائزة الإبداع الفكري لدول العالم الثالث عام 1981م، وجائزة مبارك في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2001م، إلى جانب ذلك حصل على الدكتوراة الفخرية من جامعة المنصورة، كما فاز بلقب الشخصية الفكرية العربية الأولى من مؤسسة السوق العربية في لندن، ولقب كاتب المقال اليومي الأول في أربعين عاما ماضية. وقد بني له تمثال بمدينة المنصورة يعكس مدى فخر بلده به.
توفي الكاتب انيس منصور صباح يوم الجمعة الموافق 21 أكتوبر 2011 عن عمر ناهز 87 عاما بمستشفى الصفا بعد تدهور حالته الصحية على إثر إصابته بالتهاب رئوي وأقيمت الجنازة يوم السبت بمسجد عمر مكرم بعد صلاة الظهر. وتم دفنه بمدافن الأسرة بمصر الجديدة بعد تشييع جثمانه.
نشرت جميع الصحف والجرائد العربية خبر وفاته ببالغ الحزن والأسى واعتبرت وفاته خسارة كبيرة للأدب والصحافة العربية. تقول السيدة الفاضلة رجاء منصور: "يظن الجميعأنه قد رحل بينما هو باق معى بذكرياته وأنفاسه وكلماته وسطوره".
أنيس منصور ككاتب لأدب الرحلات
أدب الرحلات أدب حيوي وهام وشائق لما يبعثه من متعة.. وما يبثه من أشواق ، وما يتخلله من معلومات، ولكنه مع ذلك ليس سهل التناول فما أكثر الطيارين والمضيفين الذين سافروا.. وما أكثر البحارة الذين نزلوا في كل ميناء ولكن ما أقل من كتب معبرا عما رأى وشاهد.
والكاتب أنيس منصور من هؤلاء القلة الذين عبروا في عمق وروعة عما رأوا وسهولة وقدرة وإبداع عما شاهدوا فهو رائد له مدرسة متميزة في أدب الرحلات.
وكما قال الدكتور سيد حامد النساج إنه كاتب جعل الرحلة همه بالليل والنهار، وحقق عن طريقها انتصارات صحفية، ونال بسببها جائزة الدولة التشجيعية. ألف عددا من الكتب تدور حول رحلاته الكثيرة، وقدم من خلالها معلومات، وشخصيات، وطرائف متنوعة. أداته في ذلك لغة سريعة خاطفة وجمل قصيرة جدا وعبارات خفيفة. ومع أنه كتب كثيرا من المقالات والقصص والدراسات والمسرحيات والتراجم الذاتية فإنه شهر عند الجمهور القارئ محليا وعربيا بأنه كاتب رحلات وصاحب خبرة في نقلها.
يقول أنيس منصور في مقدمة كتابه (أعجب الرحلات في التاريخ): "وكل صاحب رحلة يروي ما شاهد على طريقته وبأسلوبه.. ولكن من الضروري أن يكون صادقاً، وأن يضع الصدق في براويز فنية. والذي يقرأ "رحلات جيلفر" للكاتب الساخر الكبير سويفت يجد هذه العبارة في نهاية الكتاب: "لوكان الأمر بيدي لأصدرت قانوناً يحتم على كل رحالة أن يقسم بالله العظيم أن يقول الحق ولا شيئ الا الحق قبل أن ينشر ما رأى وما سمع".
من كتبه التي تدخل في دائرة أدب الرحلات : حول العالم في 200 يوم-غريب في بلاد غريبة-بلادالله خلق الله- أطيب تحياتي من موسكو- اليمن ذلك المجهول- أيام في الجزائر-أعجب الرحلات في التاريخ- أنت في اليابان- أوراق على شجر- لعنة الفراعنة.
ومن نافلة القول أن نقول إنه زار عددا من الدول كاليابان وموسكو واليمن والفلبين والجزائر وليبريا ومعظم الدول : شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، عرباً وأوروبيين. عرفنا الفنادق والقصور والمكتبات والمسارح والنوادي الليلية والميادين العامة. والأكثر من هذه محطات المترو والقطارات. "وكان طبيعيا أن اتجه فورا إلى محطة طوكيو فقد أمضيت أياماً طويلة في محطات موسكو ولندن وباريس وميونخ وأياماً في محطة روما ونيويورك وسيدني وهافانا" وعن القطار يقول : "وأجد متعة في النظر إلى القطار متربعاً على الأعواد الحديدية رزيناً حكيماً. ينفخ ويزمجر كأنه يفكر، أو كأنه قد فكر، ولكن الذي قاله جاء بمفردات أخرى.. لا تهم المفردات.. ولكنه فكر ودبر وتحرك وانطلق ولذلك فأنا لا أحب المترو، ولا القطارات الكهربية. إنها أسرع وأنعم، ولكن ليست فيها المعاني التي أجدها في القطار ولا التي كنت أجدها وأنا واقف في محلات البن، والبخار يتصاعد والروائح القوية للبن تملأ الرأس وتجلو الفكر وتشحذ الخيال."
وأهم الشخصيات التي يحرص الكاتب على مقابلتها في رحلاته شخصيات سياسية أو أدبية أو فلاسفة ومفكرين. ففي زيارته لروسيا طلب زيارة أحد قصور الثقافة وكان على بعد خمسين كيلو مترا. وخطر له مقابلة الأديب الروسي الكبير شولوخوف مؤلف "نهر الدون الهادئ" والفائز بجائزة نوبل. وأعجبه في روسيا أنهم صنعوا تماثيل لأدبائها وشعرائها ووضعوها في الميادين العامة، وللروائي العظيم دستويفسكي، والكاتب المسرحي والقصصي جوجول، وتشيخوف، وجوركي. وإذا ما كان هناك متحف في بعض المدن، فإنه يسارع إلى زيارته، ووصفه كما فعل مع المتحف الكبير بمدينة ليننجراد الذي يسمونه متحف المتاحف. وأحيانا نجده يصف مدينة أعجب بها أو شارعا أو ميناء.
ونظفر بتعليقاته الجانبية، أو ببثه معلومات هنا أو هناك، في ثنايا وصفه أوحديثه. فهو عندما يتحدث عن مدينة ليننجراد ومقاومتها للاحتلال الألماني يلفت النظر إلى أنه يجب على الإنسان أن يتعلم لغة عدوه، من ذلك قوله : "والروس ينطقون الإنجليزية بلهجة أمريكية مائة في المائة، ومن الممكن أن نتساءل نحن جميعا كم عدد الذين يدرسون لنا اللغة العبرية في مصر والبلدان العربية؟ وكم عدد الذين يعرفون اللغة العبرية؟ إننا لم نعرف بعد كيف نعرف عدونا". وعندما قابل الكاتب المسلمين في الاتحاد السوفيتي لم ينس أن يكتب معرفاً ببعض علماء الإسلام، كالإمام البخاري، الذي جمع الأحاديث النبوية، والفيلسوف الطبيب ابن سينا وأبي بكر الخوارزمي الذي اشتهر بأنه كان يحفظ كل الشعر العربي. كما يعرفنا معنى "الروشة" قائلاً : "أما الروشة فهي من الكلمة الفرنسية "لاروش" بمعنى الصخرة؛ وهي صخرة ضخمة في مدخل بيروت، وكثير من الشبان في ساعات الضيق ينتحرون عندها. يموت الناس وتبقى هذه الروشة لقمة جامدة في حلق بيروت. أو هي دمعة تدحرجت من عين أم حزينة على ولدها وصدها البحر لكي تبقى على الشاطئ دليلاً على احتقار البحر لأبناء الشاطئ" .
وبعض البلاد حظيت بوصف الكاتب لها جغرافياً مثل الفلبين، وجزيرة قبرص، وتايلاند، ولوكسمبرج؛ كما أن بعضها شغلته فيها الحياة الثقافية؛ والحديث عن الصحف والمجلات محدودة الانتشار، مثلما فعل في (اليمن ذلك المجهول)؛ التي أعجبته فيها المرأة اليمنية سافرة الوجه والملامح، والتي ترتدي البنطلون الضيق- البلوجينز.
والمرأة في جميع رحلات أنيس منصور شخصية محورية، ومحور مهم، ففي أي مكان يذهب إليه يبحث عنها.
إنه يهوي محادثة النساء والحديث عنهن ووصفهن عندما ذهب إلى النرويج وكوريا ولبنان والجزائر وموسكو. ففي كوريا كان أول لقاء بينه وبين سيدة كورية تركية أمريكية الجنسية. نظر إلى شفتيها وإلى عينيها وإلى أذنيها وإلى بشرتها. وفي الجزائر تحدث عن أختين أحبتا شخصاً واحداً. ورفض والدهما أن يزوجه واحدة منهما، فأضربا عن الطعام أسبوعين؛ فماتا ومات الشاب بعدهما ودفن الجميع معاً. وذكر الفتاة التي تخلفت عن القافلة ودخلت الغار، وتزوجت القائد ابن مقدوم وكانت تدعى "داية"؛ فسميت منطقة الغار باسمها. وحكى حكاية سيدة فرنسية طلبت تبنى طفل يتيم جزائري لكنهم رفضوا.
والمرأة في الهند ترتدي الفساتين الغريبة جداً –في نظره- فالساري قطعة من الحرير تلتف حول الساقين وترتمي على الكتف، ويبدو وكأنه فستان من قطعتين. والمرأة في قارة آسيا أحسن في مركزها من قارة أفريقيا، إذ إنها في الهند رئيسة أعظم حزب وهو حزب المؤتمر كما أنها وزيرة، ونائبة، ومستشارة، وقاضية ووكيلة البرلمان. وبذلك تكون قد احتلت أعظم مناصب الدولة. وبعد الحديث عن شكل المرأة وجمالها في موسكو ينتقل إلى عمل المرأة الروسية فيقول: "فكل اللاتي رأيتهن من النساء العاديات العاملات الشقيات بالعمل والتعب وعند خروجي من المطعم تطالعنا هذه السيدات يكتسحن الجليد وإذا اتسع وقتك فإنك سوف تفكر في أمر المرأة الروسية –ليس في أمرها بالضبط- فهناك ملايين من الرجال والنساء وقد شغلهم هذا الأمر ولكن تفكر فقط في هذا الذي تفعل النساء، إنها تقطع الجليد وتنقله وليس غريباً أن تسمع من يقول حولك: هذا هو العمل.. بنات كالقمر وأجمل من القمر. أنظروا ماذا يفعلن؟ ياعيني علينا وعلى ستاتنا، لا في لون القمر ولا في جماله ولا يؤدين عملا والتي تؤدي عملاً لا يعجبها الحال ولايكفيها المال."
وكانت عنايته فائقة بالمرأة في جزر هاواى. فقد رأى فتيات سمراوات يرتدين ملابس تشبه جلاليب الفلاحات عندنا واسعة ولها سفرة عالية وحول أعناق الفتيات عقود من الورد، وسكان هاواى نصف مليون، معظمهم من الجنس الأصفر الذي ينتمي إليه سكان اليابان والصين والفلبين والباقي ينتمي إلى الجنس الأبيض. وقد اكتشفت هذه الجزر عام 1778، من بينها جزيرة "نيهاو" تملكها عائلة واحدة ، ولايمكن دخولها إلا بإذن خاص. وعدد سكان هذه الجزيرة حوالي 200 نسمة والعائلة ترغب في أن تبقى الحياة في هذه الجزيرة كما كانت منذ آلاف السنين.
وإذا كان قد قابل بعض الزعماء وكبار السياسيين، فإن اهتمامه الأعظم كان بالمثقفين والكتاب والشعراء والفنانين، وهو يلتقي بهم لقاءات عابرة ليؤكد بها بعض ما قرأه لهم أو عنهم؛ ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نجمع رؤية معمقة من خلال كتاباته في أدب الرحلة. فالشكل الخارجي من الحضارة والثقافة والمظاهر السلوكية العامة هي التي تشغله كي يكتب عنها في نفس اللحظة، أو يمليها على الصحيفة أو المجلة قبل أن تنقضى الليلة. واللغة عنده خاطفة سريعة قلقة؛ لذا فإنها لا تحمل أبعادا فكرية، وإنما تنقل بشكل سريع خاطف بعض المشاهدات، وهو ينتقل من صورة إلى صورة، ومن مشهد إلى آخر، لأن كثرة الصور والمشاهد هي التي تهمه، وليس التحليل والتعمق. ولا يمنع هذا ما قاله الدكتور طه حسين عنه في مقدمة كتابه (حول العالم في 200 يوم) : "حلو الروح خفيف الظل بعيد أشد البعد عن التكلف والتزايد والإدلال بما يصل إليه من الغرائب التي يسجلها في كتابه، وإنما هو يمضي في الكتابة مع اليسر والإسماح، مرسلاً نفسه على سجيتها، مطلقاً لقلمه الحرية في الجد والهزل وفيما يشق وما يسهل لا يتكلف الفحص ولا يعتمد العامية، وإنما كتابه مزيج معتدل منسجم من اللهجتين، وهو لايقصد إلى أن يبهرك ولا إلى أن يغرب عليك في لفظ أو معنى وإنما يظفر بإرضاء الطباع السمحة التي تكره التكلف والتحذلق والإسفاف".
وقارئ رحلات " أنيس منصور " يجد في كتاباته الأخيرة أسلوباً يختلف بشكل ما عن أسلوبه القديم لقد سافر أكثر من عشرين مرة إلى القارات الخمس ويجد في كل مرة شيئاً يكتبه عن البلد الذي زاره قبلاً وهذا لا غرابة فيه فالكاتب لا يتحدث عن نفس الأشياء ولا يقدم ذات الصور والعين قد ترى ما لم تره من قبل.
العين الأولى : مهما كانت ثقافتها أو تجاربها فهي لا تملك إلا أن تنبهر دائماً بكل ما تقع عليه ويخالف ما عاشته قبل ذلك وخاصة إذا جاء صاحبها من دولة نامية أو متأخرة لا تتابع منجزات العلم ولا تعايش الحياة العصرية.
أما العين الثانية : فهي أكثر اتزاناً وإدراكاً للحقائق تملك أن تفرق واعية بين الغث والثمين والجوهر والزائف في حياة الشعب الذي تزوره .
يقول د. علاءالدين وحيد:
" فرحلات أنيس منصور الأولى تكاد تخلو من النبرة الزاعقة من تضخيم الأشياء بعدسة مكبرة أو تلوينها بريشة زاهية أو استقبالها دائماً بإعجاب مبالغ فيه ...لم يعد يكتب بابتهال وكأنه يصلي ، لم يعد يستخدم كلمة "جداً" كثيراً وقد التفت أنيس نفسه إلى هذه المبالغة لذلك فهو عندما أعاد طبع كتابه "حول العالم في 200 يوم " حذف كلمة " جداً " أو كاد.."
وعن قيمة الأسلوب الأدبي في أدب الرحلات سئِل " أنيس منصور " في المجلة العربية في حوار بعنوان "الكاتب أنيس منصور في حوار مكاشفة " لماذا نلحظ غياباً لهذا النوع من الأدب في حياتنا الأدبية ؟ فأجاب "أنيس منصور " : "فعلاً معك حق وهو شيء يؤسف له، سنة 1961م أخذت أول جائزة وآخر جائزة في أدب الرحلات، فكتاب (حول العالم في 200 يوم ) كان فتحاً في مصر للكتابة الأدبية في عالم الرحلات، وكان أيضاً مشجعاً لعدد كبير من الشبان على السفر والهجرة، وأنا أذكر منذ ثلاث سنوات باعتباري عضواً في المجلس الأعلى للثقافة وعضواً في هيئة المكتب وهي الهيئة التي تقرر كل سنة موضوع الجوائزالمختلفة، رصدت جائزة في أدب الرحلات ولم يفز بها أحد حتى الآن، فكتبت كتاباً آخر في أدب الرحلات وهو (بلاد الله خلق الله) وكتبت (غريب في بلاد غريبة) وكتبت (أطيب تحيات من موسكو) و(اليمن ذلك المجهول ) و(أنت في اليابان وبلاد أخرى ) و(أعجب الرحلات في التاريخ ) وكلها في أدب الرحلات ولكن لم أجد أحداً قد تقدم كثيراً في هذا المجال وهو مجال أدب الرحلات.
السبب في ذلك أن هناك صعوبة، ليست الصعوبة أن تكتب أدب الرحلات، ولكن أن تجعل الكتابة عن الرحلات أدباً، فالمشكلة ليست هي أن هناك كثيرون يسافرون، المشكلة كيف تتحول هذه الرحلات إلى رحلات وفي الوقت نفسه عمل أدبي، مطلوب أن يكون الأديب رحالاً، في الأول أديب وثانياً رحالاً وأن تمزج فن الترحل والحكايات بصياغة أدبية لتنتج عملاً أدبياً به مادة متنوعة، هذه هي المشكلة، لذلك فإن الكتابة في هذا المجال قليلة ، فهي مهمة شاقة أن تكتب أدب رحلات لا أن تكتب ريبورتاجات صحفية في الرحلات ، لذلك فإن عدداً كبيراً من الكتب التي قدمت لنيل جوائز الدولة التشجيعية في أدب الرحلات رفضت لأنها ليست أدباً ولكنها ريبورتاجات صحفية".
الأسلوب وعناصره عند أنيس منصور :
كتابات الأستاذ " أنيس منصور " في الرحلات تتسم بالبساطة في شكل مسرحي طريف ، يكتب عن مغادرته للهند وما حدث له في المطار "وعندما تقدمت إلى ضابط الجمرك طلب مني جواز السفر فأعطيته الجواز ووقفت ، ويبدو أن سعادتي كانت زائدة فلما سألني عن وظيفتي وأين كنت في الهند فأعطيته بضعة عناوين لأناس أعرفهم وآخرين لا أعرفهم في الهند ، ثم طلب مني بعدم اكتراث شديد أن أذهب إلى الغرفة المجاورة ، ولما سألته عن السبب لم يشأ أن يرد ، ولكن لاحظت أن الوقت المتبقي لقيام الطائرة لا يزيد عن عشر دقا ئق فنبهته إلى أن الطائرة قد استقرت الآن على أرض المطار وأني يجب أن أذهب إليها فوراً …ولكنه أصرعلى أن أبقى قليلاً إلى أن يتصل ببعض المسئولين .
وأشار الرجل إلى خمسة من موظفي الجمرك وامسك ورقة وقلماً وسألني في غاية الجد :
معك حشيش ! لا….. معك أفيون ! لا …..
معك ذهب ! لا .… معك مجوهرات ! لا …..
مخدرات طبية ! لا ….. مواد ملتهبة! ملتهب يعني إيه ؟
ـــــ آه …طيب أشوف المواد التي معك وأنا أقول لك ( وامتدت يده إلى حقيبتي وراح يقلب فيها .. فيجد قمصاناً وظروفاً وعلباً فارغة وزجاجات حبر وكولونيا وأملاح الصودا والأسبرين ) أمال فين المواد اللي أنت بتقول عليها …
ـــ يا أخي أنا ما قلتش حاجة …أنا سألتك فقط …مجرد استطلاع لكي أضيف إلى معلوماتي شيئاً جديداً …خصوصاً وأنا ما تزال أمامي مطارات كثيرة ورجال جمارك كثيرون ….مجرد حب استطلاع من جانبي فقط!
ـــ معك قنابل …أحماض …أفلام تصوير …أنت ماذا تعمل ؟
ـــ مكتوب في جواز السفر ..
ـــ لم أتمكن من قراءته …
ـــ أنا أدلك عليه .. "لاحظت على وجهه رغبة واضحة في أن التزم حدود الأدب واقف عند المكان الذي يجب أن يلتزمه أي مسافر خارج من الهند "
بالضبط ماذا تعمل !
ـــ مطرب ! قلتها وأنا أحاول أن أكون ظريفاً "
ـــ معك فلوس طبعاً لا …
ـــ معاك كم من الفلوس . ـــ الستر "لم يفهمها " .
ـــ بالعملة الهندية كم ؟ ـــ الستر لا يقدر بأي مال ...
ـــ هل هو قطعة من الأحجار الكريمة ؟
ـــ الستر كلمة غريبة معناها شعور ك بأنك لست في حاجة إلى أحد وأن يخرج الإنسان من بلد كما دخلها بلا فضيحة ! "حاولت أن أضحك".
ـــ إذن كيف ستعيش في جزيرة سيلان .
ـــ سأعمل في إحدى الفرق الغنائية هناك .
ـــ الفرقة التي وصلت أمس ؟ فقلت : لا اعرف وأنا فعلا لا أعرف !
ـــ لحظة واحدة من فضلك !
ودار كلام باللغة الهندية طويل طويل ...وظللت أضحك أنا ، وأحسست أني بايخ جداً .! وأن الضحك في هذه الأوقا ت لعب بالنار وإشعال للبنزين في مهب الريح ...واتجهت إلى الرجل وقلت له : إنني أداعبك فقط ومهنتي الحقيقية الصحافة .... صحفي يعني ...والله صحفي في بلدنا ...وأنا أحاول أن أداعبك قبل أن أرحل من بلادكم العظيمة بابتسامة عريضة .....
وجعل الرجل يقلب جواز سفري وهو حائر بين الأسف والضحك والأدب والوقاحة ، والغناء والصحافة ....
وأخيراً قال لي : معك فلوس ـــ معي هذه "وأعطيته روبية هندية "
ـــ ما هذا ؟ ـــ قلت إنها أزيد من المبلغ الذي نص عليه القانون ...فالقانون ينص على أن يحمل المسافر معه خمس وسبعون روبية فقط وأنا معي ست وسبعون روبية ...!
ولم تعجبه النكتة وراح يقلب في الحقيبة ....وأشار إلى أحد الشيالين أن يحملها. وعندما خرجت من الجمرك طالعت إحدى الصحف .
وفي الصفحة الأولى قرأت أن أحد المطربين في فرقة موسيقية قادمة من بيروت في طريقها إلى كولومبيا كان يخفي في ملابسه سبائك من الذهب !
وقرأت أن هذه الفرقة الراقصة فتشوها تفتيشاً كاملاً ، اشترك فيها رجال ونساء وكلاب البوليس ..وكان معهم ذهب ولؤلؤ وحشيش وأفيون ..ومن المفروض أنني أحد أفراد هذه الفرقة ! . وشكرت ضابط الجمرك واعتذرت له . وتقدم لي هو أيضاً بالاعتذار الكافي ، لا عن التفتيش وسوء الظن بي ، ولكن على التأخير ...فقد قامت الطائرة إلى سيلان ، ولابد أن أنتظر طائرة أخرى في اليوم التالي .....ونمت جالساً على مقعد غير مريح حتى صباح اليوم التالي وكنت أهرش تماماً كأي واحد من موظفي المطار ...ولو رآني أحد المتهمين بالقضايا السياسية لأعطاني الجنسية الهندية فوراً !.
هذه الحادثة مكتوبة بقالب مسرحي فكاهي يستطيع القارئ أن يستخلص منها سيناريو وحوار ويصنع فيلما سينمائياً جيداً .
" رحلات أنيس منصور الأولى تكاد تخلو من النبرة الزاعقة من تضخيم الأشياء بعدسة مكبرة أو تلوينها بريشة زاهية أو استقبالها دائماً بإعجاب مبالغ فيه ...لم يعد يكتب بابتهال وكأنه يصلي ، لم يعد يستخدم كلمة "جداً" كثيراً وقد التفت أنيس نفسه إلى هذه المبالغة لذلك فهو عندما أعاد طبع كتابه "حول العالم في٢٠٠ يوم " حذف كلمة "جداً " أو" كاد .." .
يفسر " أنيس منصور " هذا الموقف في مقدمة الطبعة الثانية بقوله : " قد سجلت في الطبعة الأولى فرحتي بالعالم الواسع الملون الباهر البكر .. واحتفظت بهذه الدهشة وتركت نبرتي العالية فمن الصعب أن يندهش الإنسان ويصر بصوت منخفض وليست علامات التعجب المنتشرة في كل الكتاب وليست كلمات "جداً " إلا دليلاً على أن دهشتي لم تنته وحماسي لم يخمد ".
ويجنح الأسلوب الصحفي و التبسيطي إلى الخفة أحياناً ويسلب بذلك من الأشياء الجادة جديتها ويحولها إلى شكل بلا مضمون فارغ المعنى أو بلا دلالة ! وظهرت هذه الخفة في حديثه عن الأديان والقوى السماوية ورجال الدين وهو ما لم يتهيأ له وقتها على الأقل فقد بد ا تناوله له في معظم الأحيان سطحياً هشاً ، ففي زيارته لطشقند لا يلتفت إلى مساجدها بحجة أن لا جديد فيها بالنسب ة إلى القادم من القاهرة ذات الآ لف مئذنة ! ولذا فهو كما يقول لا تهزه مثل مساجد طشقند !ومن السمات الخفيفة في هذا المجال أيضاً إشارة أنيس منصور إلى المسجد الذي مالت مئذنته مثل برج بيزا المائل الإيطالي وقومها المهندسون ومفهوم أهالي سمرقند في مسجد له سلالم "والذي يخطئ في عدده ا فهو إنسان خاطئ ..أي له خطايا ، ومن الذي بلا خطايا ؟ ...وهناك مسجد في مدينة بخارى كان الناس يلقون فيه بشكاياتهم إلى صاحب الضريح وك ان صاحب الضريح يجيب على رسائلهم كتابة ، واكتشفوا بعد ذلك أن رجلاً آخر هو الذي يفعل ذلك ! ".
وسوف أذكر ما كتبه الكُتَّاب والأدباء عن أسلوب " أنيس منصور " من خلال قراءاتهم "حول العالم في ٢٠٠ يوم " عن الطبعة الأولى وضمها أنيس في الطبعة الثانية تحت عنوان "قالوا عن الطبعة الأولى " .
ويصف " محمد التابعي " أسلوب " أنيس منصور" بالتميز والحرارة والسرعة والتركيز: " وللأستاذ الزميل أسلوب يتميز بالحياة والحرارة والسرعة والتركيزوهنا وهناك ومضات فلسفية ولمحات خاطفة تنم عن فهم ووعي عميق " .
ويقول "كامل الشناوي " : " وعرِف "أنيس منصور " بأسلوبه اللاذع ،وأفكاره التي لا تقل لذعاً عن أسلوبه ،كيف يشد إليه القراء في تحقيقاته الصحفية عن رحلته النابضة بكل ما شاهده في تلك البلاد من أحداث ومواقف ، وساسة ، وعلماء ، وفنانين وجد وعبث وعلم وخرافة ! ........والكتاب كله ملئ بالمفار قات والنظرات الفلسفية والروح الصحفية واللمسات الفنية " .
ويقول "موسى صبري " : " إن أسلوب أنيس منصور في رأيي يشبه الموسيقى الجاز ، يعبر عن العصر ، ينبع من أعماق الغابة ،كله اهتزازات سريعة منغمة ،كله صور منفعلة محلقة ، كله انسياب إلى عالم يعيش خياله وأوهامه، وأسلوب أنيس منصور نبضة منه ، لحن صادق لروحه القلقة الراغبة دائماً في ا لانطلاق ، .....وبهذا كله تحول الأديب أنيس منصور إلى الصحفي أنيس منصور ".
ويقول " كمال الملاخ " أن أسلوب أنيس :" أسلوب الصحافة التلغرافي، فجاء لوناً جديداً شائقاً من أدب الرح الة والرحلات ..أضيف إلى مكتبتنا العربية، إن كتاب أنيس : عمل ضخم حكاه ببساطة ولكن في عمق . "
ويقول " عبد الفتاح البارودي " : "بذكائه وأسلوبه الإلكتروني يطوف بك فوق البغال والطائرات النفاثة....الكتاب أضاف إلى المكتبة العربية مرجعاً منقطع النظير في المادة والأسلوب والرشاقة والحيوية "
ولــــ " محمود تيمور " رأي في أسلوب ولغة "أنيس منصور " كتبها في الطبعة التاسعة من كتاب "حول العالم في ٢٠٠ يوم " لأنيس منصور .
فيصف " أنيس منصور " حين يقرأ وحين يكتب :
"إن" أنيس منصور " من "قوارض"الكتب والمجلات والنشرات ، وكل ما خطه قلم على ورق ..... يقرأ لك المائتين من الصحائف ، ويحسن هضم ما قرأ ، ثم يعرض عليك خلاصتها في سياق رائع .... وهو مرهف الذوق في الاختيار والعرض ، لا ينتفي لك إلا ما يشغل ذهنك ، ويملأ سمعك ، من موضوعات الساعة وقضايا العصر ، فإذا عرض لك الماضي ربط بينه وبين الحاضر ، ونفى عنه جفافه ووحشته ، وأدنى إليك قطوفاً من أطايب الثقافة والفكر في القديم والحديث ، فهو كاتباً صحفياً ، أصيل الثقافة ، رفيع الطراز ، تتسم فصوله وتعليقاته بالطابع الموسوعي الذي يوقفك على أكثر من جانب ويدور بك في أكثر من زاوية ، ولا يدعك إلا ملماً بأشتات الموضوع الذي يعرضه عليك"
ومن أسلوب " أنيس منصور" تظهر شخصيته وجاذبيته :
" لأنيس منصور" أسلوبه الذاتي ، وهو أسلوب تتضح به شخصيته وأكبرعناصره تلك الجاذبية التي تجعل قارئه يحرص على أن يتابع على تواصل الأيام ....... كأنه يتابع رسالة موصولة الحلقات ........والجاذبية في أسلوب "أنيس منصور" تريدك على أن تدور مع حيث يدور بقلمه فيم يتناول من الموضوعات ، وهو فيها يوماً من "الأحرار" ويوماً من "المحافظين" ويوماً من "العمال" ، وأنت في جميع أحواله يحدوك بطرافة عرضه ورشاقة تصويره على أن تقرأ له وتقنع بما يقتنع به ، ولا تخرج آخر الأمر ، إلا وأنت راضٍ عن نفسك وعنه ، مطمئن إلى موقفك منه ، وإن لم تكن تدري عن أي شيء رضيت ، وفي أي موقف استقر بك المقام ".
و" المفارقات " طابع لكتابات " أنيس منصور " يعرفها عنه الكثيرون ذكرها "كامل الشناوي " عن "حول العالم في ٢٠٠ يوم " ويقول "محمود تيمور " : أنها مفتاح شخصيته " مفتاح الطابع الشخصي لكتابات "أنيس منصور " هو : "المفارقات " ...... لا يكاد يخلو منها مقال أو حديث له ، بل إنها هي القالب التقليدي للكلمات اللاذعة أو الباسمة التي يذيل بها أحاديثه ، ويجريها مجرى الحكم والأمثال ....... وليس من شك في أن " المفارقات " عنصر خلاب ، وسلاح نفاذ ، إذ هي تقوم على أساس المفاجأة والإثارة ، وتنطوي على التهكم والسخرية والمفاكهة ، وفي هذا ما يشد الانتباه ، ويهز المشاعر .....وذلك ما جعل "أنيس منصور" مفتوناً باتخاذ هذا العنصر الخلاب ، والسلاح النافذ ".
أنيس منصور " يستخدم العامية في لغته الفصيحة حتى يوصل الحكاية أو المعلومة ببساطة للقارئ مثل ( سيبك ـــ يعني ـــ حاجة ـــ حتسافر ـــ ياللا ـــ الغسالين ـــ تتفسح ـــ حتأخذ ـــ قد إيه ــــ البدلة ــــ دأنا ...الخ)
وبالتأمل في النص التالي نجد بعض الكلمات العامية التي كتبها " أنيس منصور " ليلتقي مع القارئ على صفحات الكتاب .
" عندما وجدت نفسي مرة أخرى في مطار مدراس شعرت بسعادة غريبة ، ولم يكن عندي متسع من الوقت لكي أفتش في نفسي عن أسباب هذه السعادة ، أو لم أجد أي داع لأن أبحث عن أصلها ومن هم آباء وأجداد هذا الشعور الذي نزل ضيفاً على قلبي وعلى عقلي فجعلني أتمدد على كنبة خشبية وإلى جواري رجل يهرش بصفة دائمة في أماكن غريبة دقيقة من جسمه ، ومع ذلك لا ألتفت إليه ، وإنما أنظر إليه كأنه فتاة جميلة تضع الأبيض والأحمر تمهيداً لظهورها في أحد عروض الأزياء ! "
من الكلمات العامية التي استخدمها " أنيس منصور " كلمات " أفتش " و " أتمدد " و " كنبة " و "يهرش".
يقول محمود تيمور عن لغة أنيس منصور واستخدامه للعامية :
"فلغة " أنيس منصور " هي جانب آخر من ابتسامته "الجيوكندا" ......... حيناً يطالعك بالفصيح من التعبير ، فيبهرك بما يتخير من اللفظ ، وطوراً يتعمد متطرفاً اتخاذ كلمات عامية متطرفة ، على حين أن مقابلاتها العربية لا تعزب عنه ولا تستعصي عليه ....مرة تأخذه "الجلالة" اللغوية ، فيستمسك باستعمال كلمة "اللمسات" للتعبير عما يقال له "الرتوش"،وحيناً تجنح به نزعة اللامبالاة ، فيجري قلمه بكلمة "صرماتي" بدلاً من كلمة "الاسكافي".
وأرى أن الأستاذ " أنيس منصور " في كتابه "غريب في بلاد غريبة " قل استخدامه للألفاظ العامية وسمى بأسلوبه ولغته ونستدل على ا ستخدامه للفصحى النص قوله عن رحلته في ألمانيا :
" أذكر أني حضرت إحدى ولائم الغداء في مصنع شركة "ديماج" وقد حضر عدد كبير من الخبراء والإداريين ..وعدد من الشبان المصريين يتدربون على العمل هناك . سألت جاري : وكيف حال الشبان المصريين ؟
فأشار إلى مهندس ألماني آ خر وطلب إليه أن يجيب ..وهذه الحركة مألوفة في ألمانيا ..فكل واحد يتحدث في اختصاصه ..مهما كان هذا الاختصاص تافهاً ..ونهض المهندس المشار إليه وقال : بصراحة انا لا أحب هذا النوع من الشبان ..يقصد الشبان المصريين ..وقال : إنهم أكثر اهتماماً بالفتيات الألمان ..إننا نشكر لهم هذا الاهتمام ولكن بشرط أن يكون في أوقات فراغهم ..أنا لا أفهم ما معنى أن يحمل كل واحد منهم صورتها في جيبة أو يضعها أمامه في الورشة ...!".
يستخدم " أنيس منصور " لغة الحوار كثيراً فهو يحاور كل من يقابله ويكتب هذا الحوار ليعرفنا قصة طريفة حدثت أو دارت بينه وبين الآخرين.
فأسلوب "أنيس منصور" في رحلاته شائق ممتع لا تجد نظيره كثيراً عند أساتذة الفلسفة الذين يكتبون في الصحف يستعمل الأسلوب التلغرافي ولكنه في استعماله يهبط به إلى أن يكون جافاً أو عامياً أو مبتذلاً ، وهو كصحفي يعرف كيف يستهوي الجماهير ويستحوذ على انتباهها بالأشياء التي تهتم بها وتبحث عنها ، ويعمد أنيس إلى المزيد من وسائل التشويق أو تغيير القالب الذي يكتب فيه أو هما معاً كما فعل في فصل ( انزل هنا ) من كتاب "حول العالم في 200 يوم" الذي جمع بين الشكل المسرحي والموضوع الطريف والأسلوب الفكاهي!
وفي ضوء ما كتبه في أدب الرحلة نخلص إلى الآتي: انه يستخدم اللغة الفصحى إلا نادراً. لغته بها سر وغموض كلوحة الجيوكندا. يتسم أسلوبه بالبساطة في شكل قالب مسرحي فكاهي طريف. أسلوبه يجنح إلى الخفة فيسلب الأشياء جدتها . أسلوبه يتميز بالحرارة والسرعة والتركيز. أسلوبه لاذع وأفكاره لاذعة. أسلوبه يشبه موسيقى الجاز. يستخدم الأسلوب التلغرافي فعمله عمل ضخم بسيط ولكن في العمق. أسلوبه يأتي في سياق رائع فهو مرهف الذوق في الاختيار والعرض. أسلوبه يتضح به شخصيته. المفارقات طابع أساسي في أسلوبه.


المصادر والمراجع
1. أنيس منصور :حول العالم في ٢٠٠ يوم ط ٢ القاهرة أغسطس ١٩٦٤ دار القلم و ط ٩ سلسلة جدران المعرفة.
2. أنيس منصور :غريب في بلاد غريبة نهضة مصر ط ٢ سبتمبر ٢٠٠٣ م.
3. أنيس منصور : أعجب الرحلات في التاريخ ط ٨/ ١٩٨٨ م الناشر المكتب المصري الحديث.
4. الدمرداش محمد : من سير الرحلات وزارة المعارف العمومية المطبعة الأميرية ببولاق القاهرة ١٩٤٤
5. د. حسني محمود حسين : أدب الرحلة عند العرب المكتبة الثقافية ٣٣٥ الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٧٦
6. د. حسين محمد فهيم : أدب الرحلات"دراسة تحليلية من منظور انثوجرافي" سلسلة عالم المعرفة يونيو ١٩٨٩م
7. د. حسين نصار : أدب الرحلة أدبيات الشركة العالمية المصرية للنشر ١٩٩١ ط ١
8. د. طه أبو كريشة : أصول النقد الأدبي الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ١٩٩٦
9. علاء الدين وحيد : أنيس منصور بين بلاد الله وخلق الله دار سنابل للنشر والتوزيع
10. فؤاد قنديل : أدب الرحلة في التراث العربي مكتبة الدار العربية للكتاب ط ٢ عام ٢٠٠٢ م
11. د. ناجي نجيب : الرحلة إلى الغرب والرحلة إلى الشرق دار الكلمة ١٩٨١ للنشر بيروت ط ١
12. محمود فوزي : أنيس منصور ذلك المجهول دارنهضة مصرللنشر، القاهرة
13. أنيس منصور: عاشوا في حياتي ، دارنهضة مصرللنشر، القاهرة
14. عمر رضا كحالة : معجم المؤلفين ج ٩ دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر بيروت
15. دكتور سيد حامد النساج : مشوار كتب الرحلة، مكتبة غريب، القاهرة
16. أحمد أبوسعد : أدب الرحلات وتطوره في الأدب العربي، بيروت ١٩٦١