وهذا معلوم في دائرة الأدب ودراسته، إن الشعرية لا تتم في أي إنسان إلا إذا حفظ النصوص القديمة وتمرن عليها لكي تتكون عنده قريحة شعرية مستوحاة من حفظه وذاكرته. وهذه المحفوظات الشعرية تؤثر حتما في قريحته الشعرية إلا أنه يطلب منه ألا تظهر هذه الآثار جلية ومسهبة في إبداعه الجديد. لأن القراء والنقاد لا يستحسنون كثرة السمات القديمة وآثارها في النصوص الجديدة، لأن القراء يطلبون من الأديب الإبداع والابتكار، إلا أنهم يستحسنون ويستملحون بعض الانفتاحات التي تذهب بالقراء إلى الآثار القديمة.
ولعل هذا يقودنا إلى ما اشترطه ابن خلدون لإنتاج الشعر، إذ أنه وضع شروطا من أهمها الحفظ من جنس العمل الأدبي فيقول: "اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا، أولها الحفظ من جنسه، أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها... ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر، إنما هو نظم ساقط، واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ، ثم بعد الامتلاء من الشعر وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ، وربما يقال: أن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحي رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها فإذا نسيتها، وقد تكتفت النفس بها، انتعش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة"
والتناص ظاهرة لغوية غير منقادة لحيز المصطلحات العربية المماثلة لها في اللغة الأوروبية، لأن اللغة العربية وآدابها القديمة قد أتت بمصطلحات قديمة وظواهر بلاغية كانت موجودة في مدارسها اللغوية القدمية، ومن أهمها ظاهرة السرقات الأدبية. والنقاد في المدارس اللغوية للأدب العربي القديم قد حللوا ظاهرة السرقة أو الانتحال الأدبي أدق تحليل. ومنها ما يستحسنه الذوق كما فيها ما يعدها الذوق قبيحا وفاحشا. ولكي نرى ما يستحسنها النقاد مما يستهجنون، ينبغي على دارس الأدب العربي أن يتوغل إلى المسائل الدقيقة اللغوية التي حللها النقاد العرب واللغويون.
قضية السرقة أو الانتحال الأدبي هي قضية تجد جذورها من الأدب اليوناني، يعني إن هذه القضية للسرقات الأدبية بدأت مع بداية الأدب والثقافة، لأن أقدم ما وصل إلى الإنسانية من الأدب والفنون والشعر والثقافة والعلوم، هي الموروثات اليونانية أو الإغريقية. والمتتبع في صفحات التاريخ الإنسانية والعلمية يجد بأن هذه القضية تتصل بالأدب والفنون مبدئيا. لأن بعض شعراء اليونان قد أقروا واعترفوا بتقليدهم بما كتب الأولون. علاوة على ذلك فإن بعض الشعراء في اليونان كانوا يتهمون فيما بينهم لسبب سرقتهم الشعرية أو انتحالهم الأدبي. ويعترف هوراس بأنه قلد أركيلوس والكيوس وغيرهما .
وأما القصائد العربية التي يثرثر تاريخ الأدب العربي عن غزارتها فإنها لم تنج عن السرقات الأدبية أيضا. فإن امرؤ القيس الذي لم يفُقْ على شاعريته أحد من الأولين والآخرين لم يسلم من هذه التهمة، تهمة السرقة الشعرية. وهذا صاحب العمدة يقول "كان امرؤ القيس يتوكأ عليه ـــ يقصد أبو دؤاد الإيادي ــ ويروي شعره" . ومن هذه الظاهرة الشعرية السائدة في الأيام الجاهلية لم يسلم من تهمتها زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد البكري وشعراء المعلقة وغيرهم.
ولما وصلت القافلة الشعرية إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أبعدت العقيدة السلمية ما وجد في الشعر العربي الجاهلي من المشاعر القبيحة والتشبيهات غير اللائقة بالروح الإسلامي، إلا أن ظاهرة السرقة قد استمرت في العهد الإسلامي كما كانت تستمر في العهد الجاهلي. وذلك لأن السرقات الأدبية قد شاعت وكثرت في هذا العصر. ولم يسلم من التهمة إلا أقل القليل. فاتهم أكثر الشعراء في العصر الإسلامي بالسرقة الشعرية. وها هو ذا حسان بن ثابت الأنصاري الملقب بشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي عن نفسه السرقة حيث يقول:
لا أسرق الشعراء ما نطقوا بل لا يوافق شعرهم شعري
ومع هذا اتهم حسان بالسرقة فابن وكيع يذكر أنه سرق بيته:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأُسْدا ما ينهنهنا اللقاء
والمنافسة الشعرية التي يعرف بها العهد الأموي، قد أضفت إلى باب السرقات إسهاماتها وأقساطها. لأن شعراء الهجاء قد بذلوا كل جهودهم لكي ينالوا من منافسيهم ومعانديهم، ونتج عن ذلك ظهور السرقات الأدبية وإدانة من ارتكبوها. وعدد من سرقوا الشعر القديم في العهد الأموي من الشعراء كثير بالنسبة إلى العهود السالفة، ها هو ذا الفرزدق الشاعر الأموي الكبير قد فعلها مع ذي الرمة والشمرذل والنابغة، وكذلك سرقات جميل بثنية وكثير عزة، والأخطل والكميت، وجرير الذي صرح بهذا عندما قال: "وأنا أحتاج أن أسرق قول عمرو وهو القائل قد وصف إبله، وقد ذكر قصة قد ذكرها ابن سلام عن أبي يحيى الضبي في أخبار جرير
وقول الشاعر جرير بن عطية متهما نظيره الفرزدق بالسرقة هو خير شاهد لما نحن في صدده الآن، يقول جرير:
سيعلم من يكون أبوه قينا ومن عُرفت قصائده اجتلابا
وهذه القطعة الشعرية قد هيجت الحمية في نفس الفرزدق حتى رد على جرير بقوله:
إن استراقك يا جرير قصائدي مثل ادّعاء سوى أبيك تنقل
ومن قول جرير "اجتلابا" اتخذ النقاد العرب فيما بعده مصطلحا جديدا يساوي لمصطلح السرقات الشعرية وقد استخدموه في ممارساتهم النقدية. واستمرت هذه الظاهرة الشعرية عند الشعراء الأمويين بين الاستحسان والاستهجان حسب تفاوتها في السرقة. ومنهم من ينحل آراء الآخرين، ومنهم من ينحل بعض الألفاظ الواردة في شعر الأولين، إلا أن أقبح السارقين قد أتوا بجميع ما أتى به الأولون. ومن هذا النوع قول الفرزدق حين قال:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
والنقاد ورواة الشعر يقولون بأن هذه القطعة الشعرية قد نظمها العباس بن عبد المطلب حيث قال:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
والعهد الأموي الذي يعرف بالمنافسات الشعرية بين شعراء النقائض كان أيضا يتميز بالقصائد السياسية. والشعراء في البلاط الأموي كانوا يناصرون الملوك والأمراء. وهؤلاء الشعراء المرتزقون من السياسة مع شعراء النقائض كانوا يحفظون كل ما يكتبه منافسوهم، فذلك ليُحكموا شعرهم وآراءهم وليتمكنوا من الرد على خصومهم. وهذا الحفظ لأجل التفوق في المنافسة الشعرية أو السياسية قد أدى إلى تسرب أفكار المعاندين إلى شعرهم.
أما العصر العباسي الذي يفرط تاريخ الأدب العربي في بيان روعته وازدهاره، فإن هذه الظاهرة الشعرية يعني السرقات الشعرية قد جاوزت حدودها واتسعت دائرتها، حتى لم يسلم من تهمة السرقة أحد من شعرائها الفحول. النقاد وأساتذة الأدب قد ألفوا كتبا تزخر بأنواع السرقات الشعرية في العصر العباسي. وقد اشتد النقاش حول خمسة شعراء عباسيين في شعرهم وسرقاتهم، وهؤلاء هم بشار بن برد وأبو نواس، وأبو تمام، والمتنبي، والبحتري . وكتب الأدب العربي ثرية بسرد أنواع هذه السرقات الشعرية. ولكن الشعراء في العصر العباسي لم يروا بأسا في السرقات الشعرية إذ كانوا يظنون هذه الطريقة ليست إلا طريقة فنية معترفة فيما بينهم.
أبواب السرقات الشعرية
وتأتي الأستاذة رفيقة سماحي، وهي أستاذة في قسم اللغة العربية جامعة طاهري محمد بشار من الجزائر، بأبواب السرقات الشعرية المختلفة، ناقلة عن الناقد الكبير واللغوي الكبير أبو علي الحاتمي. وقد حللت الأستاذة هذه الأبواب الشعرية تحليلا مفصلا. ويمكن القول من هذه الأبواب التي صنفها نقاد الشعر العربي بأن النقاد العرب القدماء قد عالجوا هذه القضية أحسن معالجة حتى لم يتركوا مجالا للمتأخرين. "والأبواب كما يلي :
1) باب الانتحال: وهو أن يأخذ الشاعر أبياتا لشاعر آخر، كما فعل جرير حينما أخذ قول المعلوط السعدي.
2) باب الإنحال: وهو أن ينظم الشاعر شعره ثم ينحله شاعرا آخرا، أي ينسبه إلى شاعر آخر كما كان يفعل حماد الراوية، وخلف الأحمر، الذي نحل الشعر لتأبط شرا، والشنفرى.
3) باب الإغارة: وهو أن يصنع الشاعر بيتا، فيتناوله من هو أعظم منه ذكرا، فيروي له دون قائله، كما فعل الفرزدق بذي الرمة، وبجميل.
4) باب المعاني العقم: وهي الأبكار المبتدعة
5) باب المواردة: وهو أن يتفق المبدعان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، ولم يلق واحد منها الآخر ولا سمع عن شعره شيئا، وهذا ما يعرف بتوارد الخواطر.
6) باب المرادفة: وهو أن يتنازل الشاعر عن بعض أبيات له يرفد بها شاعرا آخر، ليغلب خصما له في الهجاء، مثل ما فعل النابغة الذبياني عندما استردف زهيرا، فأمر ابنه كعبا فرفده.
7) باب الاجتلاب والاستلحاق: وهو أن يجتلب الشاعر بيتا لشاعر آخر، ليتمثل به لا ليسرقه.
8) باب الاصطراف: وهو أن يصرف الشاعر لنفسه بيتا من الشعر، أو أبياتا تكون قد أعجبته من شاعر آخر، لحسن موقع ذلك البيت أو تلك الأبيات في سياق قصيدة ذلك الشاعر.
9) باب الاهتدام: وهو أن يأخذ الشاعر بيتا لآخر، فيغير فيه تغييرا جزئيا، ثم ينسبه لنفسه.
10) باب الاشتراك في اللفظ: وهو أن يشترك الشاعران في شطر بيت، ويختلفان في الثاني.
11) باب إحسان الأخذ: وهو أن يتعاور الشاعران معنى، أو لفظأ أو كليهما، ويكون الآخذ منهما قد أحسن العبارة، وانتقى الوزن اللطيف فيكون أحق به، وخاصة إذا أخفى الأخذ، ونقله من موضوع لآخر.
12) باب تكافؤ المتبع والمبتدع في إحسانهما: وهو أن يصنع الشاعر صنيعا فيلقى من يكافؤه في الإحسان.
13) باب تقصير المتبع عن إحسان المبتدع: وهو أن يأتي الشاعر بصنيع ثم يأخذ عنه شاعر آخر فيقصر في إحسان المبتدع.
14) باب نقل المعنى إلى غيره: وفيه ينقل الشاعر المعنى بالصنعة التي صنع بها، وينتقي اللفظ بطريقته التي سلك فيها غيره، وهذه صنعة يستنشق منها صياغة المعاني وإخفاء للسرق والاحتذاء.
15) باب تكافؤ السابق والسارق في الإساءة والتقصير: وهو أن يأتي الشاعر بلفظ ومعنى رديئين ثم يأخذ منه شاعر آخر، ويقتفي أثره.
16) باب من لطيف النظر في إخفاء السرقة: وهو أن ينظر الشاعر إلى لفظ أو معنى لطيف، ثم يخفي سرقته.
17) باب كشف المعنى وإبرازه بزيادة: وهو أن يأخذ الشاعر معنى لبيت أو أبيات شاعر آخر، ثم يبرزه ويكشف عن معناه أكثر من المبتدع.
18) باب الالتقاط والتلفيق: وهو أن يرقع الشاعر بيته بألفاظ ومعان لأكثر من شاعر واحد، ثم يلفق الكلام لينظم بيتا واحدا.
19) باب في نظم المنثور: وهو نقل المعنى من النثر إلى الشعر.
ذكرت الأستاذة رفيقة السماحي ناقلة عن اللغوي الكبير الحاتمي هذه الأبواب للسرقات الشعرية، وقد قسمها الحاتمي في تسعة عشر بابا. ومن إمكان المتتبع في الآثار اللغة العربية وتاريخها أن يلخص هذه الأبواب إلى عدد قليل كما اختصرها العالم الناقد ابن رشيق القيرواني. ولكن العرب وعلماؤهم اللغويين قد حللوا هذه المسألة تحليلا جامعا وناقشوها نقاشا مانعا. ومن تفصيل الحاتمي وبيانه تظهر الأهمية البالغة التي أولاها العلماء العرب للسرقات الشعرية. ولم أتطرق إلى التفاصيل الدقيقة التي أوردتها الباحثة رفيقة ناقلة عن الحاتمي في كتابها السرقات الشعرية والتناص. والباحثة قد تطرقت إلى دقائق الأبواب للسرقات الشعرية" حيث أتت بالأمثلة الكافية لإيضاح التباين بين الأبواب الشعرية.
الفوارق بين التناص والسرقات الأدبية
ويأتي الدكتور علاء رمضان ناقلا عن الدكتور خليل موسى، وهو يفرق بين مفهومي التناص والسرقة، في ثلاث نقاط:
الأول: على مستوى المنهج: السرقة لا تعتمد المنهج التاريخي التأثري والسبق الزمني، فاللاحق هو السارق، والسابق أو المتقدم هو المبدع. بينما يعتمد التناص على المنهج الوظيفي ولا يهتم كثيرا بالنص الغائب.
والثاني: على مستوى القيمة، ناقد السرقة الأدبية إنما يسعى إلى استنكار عمل السارق وإدانته، في حين ناقد التناص يقصد إظهار البعد الإبداعي في النتاج الأدبي.
والثالث: على مستوى القصدية، ففي السرقة تكون العملية قصدية واعية، بينما في التناص تكون غير واعية .
على أي حال، فإن النقاد القدامى قد عالجوا هذه القضية يعني قضية التلاص أو السرقات الأدبية بشكل واسع في كتب تراثية وصل بعضها إلينا كما ضاع منا البعض الكثير. ومن أهم الكتب النقدية التراثية والتي تناولت هذه القضية الأدبية: الشعر والشعراء لابن قتيبة، وكتاب سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه لابن السكيت، وسرقات البحتري من أبي تمام لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور، وسرقات البحتري من أبي تمام، وكتاب السرقات الكبير لأبي الضياء بشر بن يحيى، وسرقات الشعراء لعبد الله بن المعتز، وسرقات الكميت من القرآن وغيره لأبي محمد عبد الله بن يحيى المعروف بابن كناسة، وإغارة كُثير على الشعراء للزبير بن بكار القرشي، ومثالب أبي نواس لأحمد بن عبد الله الثقفي، ومساوئ وسرقات أبي نواس لابن عمار، وسرقات أبي تمام لأبي علي السجستاني، وفرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر للآمدي صاحب كتاب الموازنة، والكشف عن مساوئ المتنبي للصاحب بن عباد، والرسالة الموضحة في سرقات المتنبي، وكذا حلية المحاضرة لأبي علي الحاتمي، وكتاب المنصف لابن وكيع التنيسي، والنقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته لابن جني، والمآخذ الكندية من المعاني الطائية لابن الدهان، ورسالة الاستدراك لابن الأثير، والإبانة عن سرقات المتنبي لأبي سعيد العميدي، والسل والسرقة للحسن بن أحمد الأعرابي، وسرقات أبي نواس لمهلهل بن يموت، والأغاني لأبي الفرج الإصبهاني، وأخبار أبي تمام للصولي، والموشح لمرزباني، والصناعتين لأبي هلال العسكري، وإعلام الكلام لابن شرف، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة للشيخ عبد القاهر، والعمدة لابن رشيق، والمثل السائر لابن الأثير، والوساطة للقاضي الجرجاني، وغيرهم كثير.
وهؤلاء النقاد القدماء قد تناولوا هذه الأشكال للتأثير والتأثر والسرقات الأدبية تحت عنوان التلاص أو السرقات، ولكن هؤلاء قد عالجوا كل المفاهيم التي تأتي تحت مصطلح التناص. بدءا من الحد الأقصى، وهو السرقة الظاهرة وانتهاء بالحد الأدنى، وهو المعاني المشتركة العامة. وما بينهما هناك مراحل مختلفة للتناص قد عالجوها تحت مصطلحات متنوعة، قد تتشابه هذه العناوين حينا كما تختلف أحيانا. وأما مفهوم الدرجات بين السرقة الظاهرة والمشترك العام فقد سيطر على ممارساتهم النقدية، وهو أقرب إلى ما تسميه مدارس النقد الغربي الحديث مفهوم التناص.
والتلاص أو السرقات الشعرية، فقد حللوا عقدها وفصلوا أبوابها بتقديم مئات الأمثلة والأبيات للسرقات الحقيقية والوهمية وما بينهما. وهناك بعض المجال الذي يجيز فيه النقاد السرقة للأديب كما بينوا المواضع التي لا يمكن لشاعر أن يأتي فيها بآراء غيره من الشعراء. والنقاد قد ميزوا السرقة الظاهرة والتي تعد من عيوب الشعر كما بينوا الإخفاء الذكي. ولكن الإخفاء الذكي من الأمور التي يراها النقاد من الأمور الممدوحة، إذ الشاعر في الإخفاء الذكي هو أكثر قدرة على الامتصاص والتحويل والتغيير.
وكذلك النقاد في التراث الأدبي القديم قد تحدثوا عن كل شيء يتعلق بالتناص في جهة أو بالتلاص في جهة أخرى. وأجازوا كل شيء ممكن في الشعر العربي حتى منحوا البقاء والأولوية للأبيات المسروقة إن كانت فيها سمات السرقات الجميلة، وذلك بعد أن محوا أثر النصوص الأولى والتي منها سرقت هذه النصوص أصلا، بل وجعلوها "فنا ملحقا بعلم البديع. وكان التداخل سمة رئيسة بين التناص والتلاص. وبما أننا لا نستطيع أن ننفي الوجود الواقعي للتلاص في الموروث النقدي أو في النقد المعاصر، وبما أن التناص، أصبح يأخذ شكلا شبه محايد بعدم تركيزه على التلاص في الأعمال الأدبية، فيفترض أن نعترف بموضوعية التناص والتلاص معا، دون أن ندعي أن التلاص هو مجرد تناص، ودون أن ندعي أن التناص يشمل التلاص، فالتلاص ظاهرة عالمية منذ القدم وحتى الآن. وبهذا تطور مفهوم السرقات في الموروث النقدي، لا بتجاهل التلاص الحقيقي، بل بإضافة مفهوم التناص الأوروبي، بالاقتراب منه، لأنه يتطابق تقريبا مع المصطلحات التي صاغها النقاد العرب القدامى التي تدل على أنواع أخرى غير السرقة، من خلال ممارستهم لمفهوم الدرجات، لأن هذه الدرجات تقع في مساحة واسعة بعد مفهوم السرقة، لتصل إلى درجة المشترك العام، وهو في عرف النقد الحديث، نوع من أنواع التناص، حين يتعلق بامتصاص الشاعر للمعرفة العامة والخاصة. وبطبيعة الحال محيت أنواع كثيرة من التلاص والتناص السائدة في الموروث النقدي، فلم يعد لها وجود، وتحولت إلى حالة تاريخية".