إن كتاب "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين" للشيخ أحمد زين الدين المخدوم الثاني المليباري كتاب ذو شهرة عالمية، وهو يعتبر أول كتاب عربي أُلّف في تاريخ ولاية "كيرالا" (Kerala) الهندية في جنوب الهند بقلم واحد من أبنائها - وخاصة في تاريخ مسلمي كيرالا -، كما أنه يعتبر مرجعًا أساسيًّا في الوصول إلى تاريخ ظهور الإسلام وانتشاره فيها، وقدوم كبار شخصيات العرب إليها، وإلى معرفة أحوال الديانات الوثنية في هذه المنطقة، وعاداتهم وتقاليدهم، وإلى معرفة قدوم المستعمرين البرتغاليين إلى الهند ومظالمهم ومفاسدهم تجاه أهلها. وإن هذا الكتاب التاريخي قد احتل مكانًا بارزًا في قائمة المراجع والكتب التاريخية والمناهج الدراسية في قسم التاريخ والحضارة والأديان في الجامعات والكليات العالمية المختلفة.
ونقول إن هذا الكتاب مع أهميتها ومكانتها بين كتب التاريخ، وهو ليس كتاب تاريخي فحسب بل كتاب ذو لمسة سياسية واجتماعية قوية يستنتجها القارئ نتائج كثيرة من صفحاته بقراءته الدقيقة في سطورها. فهذا البحث محاولة متواضعة للاطلاع على جوانبه السياسية والاجتماعية، ولقرائته قراءة عصرية حيث يتمكن الاستخراج منه مواقف عالم كبير وآراء فقيه محقق في بعض ما يعانيه ويواجهه هذا العصر.
المبحث الأول: ترجمة مؤلف الكتاب
هو الشيخ الإمام أحمد زين الدين بن محمد الغزالي بن أبي يحيى زين الدين بن علي بن أحمد المليباري الهندي الشافعي، وهو شهير بـ"زين الدين المخدوم الصغير" أو "المخدوم الثاني" كما أن جده أبا يحيى زين الدين بن علي معروف بـ"زين الدين المخدوم الكبير" أو "المخدوم الأول". إنه من أجلّ العلماء الهنود في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) وصاحب مؤلفات عديدة في العلوم الإسلامية المختلفة، ومنها كتابه الفقهي المشهور "فتح المعين بشرح قرة العين" وكتابه في فن التصوف "إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد" وغيرهما.
ويعتقد أن الإمام أحمد زين الدين المليباري ولد ببلدة "جَوْبَانْ" (تشُومْبَالْ Chombal) بالقرب من مدينة "مَاهِي" (Mahe) من مديرية "كَنُّورْ" (Kannur) في شمال ولاية كيرالا الهندية المعروفة غالبًا باسم "مَلَيْبَارْ" في التراث الإسلامي، وقيل إنه ولد ببلدة "فُنَّانِي"، فالأول هو الأرجح عند المؤرخين المليباريين ، وكان مولده في سنة 938هـــ / 1532م ، في أسرة مشهورة معروفة باسم عائلة "المخدوم" ، وكان أبوه محمد الغزالي الجوباني عالمًا كبيرًا، وقد تزوج امرأة صالحة ذات ورع من أسرة إسلامية مشهورة، وكان الإمام زين الدين المليباري إبنًا لهذين الوالدين الكريمين .
ويقول المؤرخون ان جذور آبائه تصل إلى البلاد العربية أي إلى بلاد اليمن حيث أنهم تركوا بلادهم لنشر دين الله في أنحاء العالم وجابوا في العالم وأتوا إلى منطقة "معبر" الواقعة في الجنوب الشرقي لساحل مليبار المعروفة الآن باسم "كوراماندل" (Coromandel) في ولاية "تامل نادو" (Tamil Nadu) . وهم وصلوا إلى بلاد مليبار في أوائل القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي، ثم استقروا فيها واندمجوا بأهل مليبار.
إن الشيخ المليباري قد أخذ العلوم المختلفة من كبار علماء عصره أمثال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي ، والشيخ عز الدين بن عبد العزيز الزمزمي (900هـ - 976) ، والشيخ وجيه الدين عبد الرحمن بن زياد (943هـ - 975) ، والشيخ أبو بكر محمد بن أبي الحسن البكري الصديقي (930- 994هـ/ 1524- 1586م) ، وغيرهم.
واختلفت أقوال المؤرخين في تاريخ وفاة الشيخ أحمد زين الدين المليباري، وكتب المؤرخ المصري الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه "تاريخ الإسلام في الهند" إنه توفي سنة ۹۹١هـ/ ١٥۸٣م ، وهذا القول مخالف لما كتبه المؤرخون المشهورون جورجي زيدان وكارل بروكلمان وخير الدين الزركلي حيث إنهم ذهبوا إلى أن الإمام توفي سنة987هـ/ 1579م. وأما ما ذكره جورجي زيدان ومن معه فليس بصحيح لأن الشيخ زين الدين المليباري قد تحدث في آخر كتابه "تحفة المجاهدين" عن حوادث سنة ۹۹١هـ/ ١٥۸٣م، وكيف يكتب عن الحوادث التي وقعت بعد وفاته، ويحتمل أن يكون رأي الدكتور عبد المنعم النمر المصري مستنبطًا من هذه الوجهة. ولكن القول المعتمد والمتجه ما ذكره المؤرخ المليباري الكبير الشيخ محمد علي مسليار النّليكوتي في كتابه الجليل "تحفة الأخيار في تاريخ علماء مليبار" من أنه توفي سنة 1028هــــ، فيكون عمره عند وفاته قرابة تسعين سنة .
مؤلفات الشيخ أحمد زين الدين المليباري: وللشيخ المليباري مشاركة في التأليف في الفقه والتصوف والحديث والتاريخ وغيره، ومن هذه المؤلفات الفقهية:
1- قرة العين بمهمات الدين: وهو كتاب مختصر في الفقه على مذهب الإمام الشافعي، وإن هذا الكتاب يعتبر من أهم المتون الفقهية في مذهب الإمام الشافعي، الصادرة من أقلام علماء مليبار، بل من أقلام علماء الشافعية في الهند. وإنه حصل على مكانة كبيرة ومنزلة رفيعة عند علماء وفقهاء الشافعية في العالم، حتى أن بعضهم قام بوضع الشروح والحواشي على هذا المتن الفقهي، وبعضهم نظّم ما فيه من المسائل والأحكام .
2- فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين: لما رأى الشيخ المليباري أن كتابه المختصر "قرة العين" صعب على طلاب العلم فهمه وتحليل عباراته توجه إليه بشرح كاف وبيان واضح، وسماه بــ"فتح المعين بشرح قرة العين". ونال هذا الكتاب منزلة عالية بين كتب الفقه على مذهب الإمام الشافعي أيضًا؛ حيث أنه يبقى متداولا بين الشافعية في كثير من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، ويدرّس في كثير من المعاهد والكليات والجامعات الإسلامية، وطبع مرارا في مليبار وفي البلاد العربية، وكثير من العلماء العرب وغير العرب قاموا بوضع الحواشي على هذا الشرح الفقهي، وبعضهم قام بترجمته إلى اللغات المحلية، فهذه كلها شهادة العلماء الكبار على قبولية هذا الكتاب بين الشافعية من العرب والعجم .
3- الأجوبة العجيبة عن الأسئلة الغريبة: هذا كتاب يشتمل على مجموعة من الفتاوى التي أفتاها كبار العلماء في أهم الوقائع والنوازل الفقهية التي شغلت بال المجتمع والفقهاء في ذلك الوقت؛ أجوبة لأسئلة الشيخ المليباري التي رفعها إليهم وقت إقامته في مكة المكرمة .
4- إحكام أحكام النكاح: هذا كتاب مختصر يتكلم فيه الشيخ المليباري عن مسائل وأحكام متعلقة بالنكاح والطلاق وما يترتب عليهما .
5- المنهج الواضح بشرح إحكام أحكام النكاح: هذا شرح لكتابه "إحكام أحكام النكاح".
ومن مؤلفاته الأخرى:
1- إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد: هذا كتاب جمع فيه المصنف بين الفقه والعقيدة والتصوف والقصص والمواعظ، فهو في مجمله فقه يتعلق بصحة عبادات الناس ومعاملاتهم ومعاشراتهم، وفيه تصوف يأخذهم إلى سبيل الحق والهداية ويعينهم على تطهير القلوب والأنفس من دنس الذنوب ويقربهم إلى رب العباد .
2- الجواهر في عقوبة أهل الكبائر: وهو كتاب يعبر عن عقوبة أهل الكبائر التي تتمثل في ترك الصلاة، وعقوق الوالدين، وشرب الخمر، وفاحشة الزنا، وفاحشة اللواط، وأكل الربا، والنياحة، ومنع الزكاة، وقتل النفس بغير حق، وقطع الرحم، وترك المرأة حق زوجها .
4- الإستعداد للموت وسؤال القبر: إن هذا الكتاب يحوي في صفحاته عناوين عدة مثل- التحذير من الإغترار بالدنيا، الإستعداد لنزول الموت، الأمل، سكرات الموت، عذاب القبر، أحوال الموتى، أشراط الساعة، الحساب، الميزان، الصراط، الحوض، عذاب الكافرين في جهنم، الخلود في النار للكافرين، الجنة وما لأهلها من النعيم، صفة الحور العين، رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة .
5- مختصر شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور: هذا مختصر كتاب "شرح الصدور" للإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله.
المبحث الثاني: كتاب "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين"
وإن هذا الكتاب من أشهر الآثار العلمية للمؤلف رحمه الله، وهو خير دليل على براعته القوية في تدوين التاريخ والأحداث، وعلى دوره السياسي والاجتماعي في خدمة الدين الإسلامي والأمة الإسلامية. وسجل فيه المصنف- رحمه الله - أخبار مقاومة المليباريين التاريخية ضد القوى الاستعمارية الأجنبية البرتغالية الداخلة في ديار "مليبار". وإنه ألّف هذا الكتاب قيامًا بواجبه تجاه أمته؛ وتشجيعًا لهم على مواجهة أعدائهم البرتغاليين، ودعاهم إلى أن يقفوا صفًّا واحدًا أمام هؤلاء الأعداء، وأن يؤيّدوا حاكم مليبار "سَامُوتِرِي" ويقوّوا عضده في معركته ضد ملاعين البرتغاليين، وأن يساهموا فيها بأي شكل من الأشكال.
وإن أبرز العوامل التي دفعت المؤلف رحمه إلى تأليف هذا الكتاب المشهور، هو العامل الديني الذي حرّك شعوره الإنسانية، ودعاه إلى أداء مسؤوليته كعالم إسلامي وقائد روحي للأمة، وجعله يبحث عن كل طرق لإنقاذ المظلومين المسلمين المليباريين من مظالم ومفاسد البرتغاليين المستعمرين الذين أذاقوهم الويلات والمصائب ونهبوا ممتلكاتهم واعتدوا على أعراضهم وسلبوا تجاراتهم وأموالهم، بل وأجبروهم أحيانًا على ترك الإسلام واعتناق النصرانية. وقد وصف لنا المصنف نفسه هذه الحالات المأساوية التي تحمّلها المسلمون في ظل الاستعمار البرتغالي ، فمن هنا بادر من خلال صفحات كتابه هذا، بدعوة المسلمين المليباريين إلى الجهاد ضد هؤلاء الأعداء وقوفًا مع "ساموتري"، ونبّههم على القيام بواجباتهم ومسؤولياتهم تجاه دينهم وبلدهم، وطلب من الملوك والحكام المسلمين في داخل الهند وخارجها أن يساعدوا المليباريين في هذه المعركة ضد هؤلاء الظلمة الفجرة.
وأهدى المؤلف هذا الكتاب كتحفة رائعة إلى حاكم مملكة "بيجافور" السلطان علي عادل شاه ، خامس ملوك السلالة "عادل شاهية"، طلبًا منه أن يساعد المسلمين المليباريين في معركتهم ضد البرتغاليين المستعمرين. وإلى هذا الإهداء يشير المصنف في مقدمته لهذا الكتاب حيث يقول: ".. وسميته "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتكاليين" ذكرت فيها مع بعض ما مضى من مساويهم، ظهور دين الإسلام في ديار مليبار، ونبذة يسيرة من أحكام الجهاد، وعظيم ثوابه، والتحريض عليه بنص التنزيل والآثار، وشيئًا مما اختص به كفرتها من غرائب الأخبار، وجعلتها تحفة لحضرة أفخر السلاطين وأكرم الخواقين الذي جعل جهاد الكفرة قرة عينه، وإعلاء كلمة الله بالغزو قرط أذنه، وأرصد نفسه الشريفة لنصر أهل الله، وهمته العلية لتدمير أعداء الله، محيي دين الله، ماحي الكفر والضلال عن بلاد الله، الذي صير محبة العلماء والصلحاء نصب عينيه، وإغاثة الغرباء والضعفاء مطمح نظره، مالك أزمة المعالي حسنة الأيام والليالي، الفائز مع حداثة سنه بالسعادة الأبدية،..." .
وعلى الرغم من صغر حجم هذا الكتاب التاريخي فإنه صار أبدعَ ما أُلّف في تاريخ مليبار، وتبوّأ مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة في نفوس الباحثين وطلاب العلم، وكسب لمؤلفه شهرة عالمية بين المؤرخين المسلمين والمشتشرفين وغيرهم على السواء، حتى فاقت شهرته التي نالها بسبب هذا الكتاب على شهرته بمؤلفاته الأخرى، فاشتهر بينهم مؤرخًا ماهرًا ومحلّلًا سياسيًّا خبيرًا، ورجلًا وطنيًّا نصب راية الجهاد على قمم الهمة العالية ضد الاحتلال والاستعمار، وأشعل في قلوب شعبه نور حب الوطن الذي هو من الإيمان، وشجعهم على مطاردة المحتلين المستعمرين من بلادهم، ودعاهم إلى المحاربة والمقاتلة لأجل تحرير وطنهم ولتطهير أراضيهم ولحماية أنفسهم وأعراضهم من أيدي هؤلاء الأعداء الظالمة.
وإن الشيخ أحمد زين الدين المليباري ألف هذا الكتاب في سنة 985هـ / 1577م، وشاعت نسخه الخطية في أرجاء مليبار بل في أرجاء العالم، ثم طبع أولًا في اللغة العربية في "لَشْبونة" (Lisbon) عاصمة البرتغال سنة 1898م بعناية جمعية لشبونة الجغرافية بمناسبة احتفال السنة الأربعمائة لاكتشاف بلاد الهند، ونسخته موجودة في مكتبة جامعة الأزهر بمصر، ونال هذا الكتاب قبولًا حسنًا وتقديرًا عاليًا في البلاد الشرقية والغربية.
ومكانة هذا الكتاب ليست محصورة بين المؤرخين والباحثين المليباريين أو الهنديين فحسب، بل لها مكانة كبيرة عند الآخرين أيضًا كمرجع هام في معرفة تاريخ استعمار البرتغاليين واحتلال الغرب في شتى أنحاء العالم. ومما يدل على مكانته العالمية أنه قد نُقل كليًّا أو جزئيًّا إلى كثير من اللغات العالمية واللغات الهندية، وقام بعض العلماء بترجمته إلى اللغات العالمية مثل الإنجليزية واللاتينية والإفرنجية والألمانية والإسبانية والتشيكية والفارسية، وإلى اللغات الهندية مثل الأردية والغجراتية والمليالمية والتاملية والكنّدية وغيرها.
والأمانة العلمية تقتضينا الإشارة إلى اثنين من المستشرقين الذين اهتموا بأمر هذا الكتاب بعدما عرفوا أهميته وشأنه، أولهما المستشرق الإنجليزي "رُولَنْدْسُونْ" (R.Rowlandson)، الذي طبع هذا الكتاب مع ترجمته في اللغة الإنجليزية في سنة 1833م. وثانيهما هو المستشرق البرتغالي "دَافِيدْ لُوبَسْ" (David Lopes) (1867م- 1942) الذي طبع متن هذا الكتاب وترجمته له في اللغة الإسبانية مع مقدمة وحاشية في 331 صفحة، وهذا الكتاب هو الذي طبع في سنة 1898م بعناية جمعية لشبونة الجغرافية بمناسبة احتفال السنة الأربعمائة من اكتشاف بلاد الهند.
وقام بترجمته إلى اللغة الإنجليزية الأستاذ محمد حسين نينار رئيس قسم اللغة العربية السابق بجامعة مدراس الحكومية في الهند، وإلى اللغة الأردية الشيخ شمس الله القادري مع تعليقات قيمة .
ولهذا الكتاب عدة ترجمات في لغة مليالم، الأولى منها ترجمة الأستاذ موسان كوتي المولوي (Moosan kutty Moulavi) في سنة 1935م، ولكنها غير كاملة لأنه ترك في ترجمته القسم الأول، ومنها ترجمة المؤرخ المشهور ويلايدهن فنيكاشيري (Velayudhan Panikkassery)، وترجمة الأستاذ حمزة مع تعليقات مفيدة، وترجمة الأستاذ محمد علي مسليار النليكوتي المليباري مع تعليقات نافعة. وقد لخص هذا الكتاب المؤرخ الفارسي المشهور محمد قاسم فرشته في الجزء الثاني من كتابه التاريخي .
المطلب الأول: مضمون الكتاب
قسم المصنف مضمون هذا الكتاب إلى مقدمة وأربعة أقسام، كما قال المصنف نفسه في مقدمة كتابه: "وقسمت المجموع على أربعة أقسام: القسم الأول في بعض أحكام الجهاد وثوابه والتحريض عليه، القسم الثاني..." ، وفي أولها يذكر المصنف رحمه الله عن أحكام الجهاد الإسلامية وعن فضله عند الله ويحرّض أهل مليبار - خاصة مسلميهم - على الجهاد ضد البرتغاليين الفجرة، وفي هذا القسم دخل المصنف في موضوع الجهاد بتفصيل بسيط حيث أشار فيه إلى بعض الآيات الكريمة والأحادث النبوية الشريفة التي تتعلق بحكمه وفضائله وما إلى ذلك، ولم يستوعب جميع ما في هذا الباب، ولم يتعرض أيضًا للأحكام الفقهية التي تتعلق بالجهاد إلا قليلًا نادرًا، لأنه لم يكن هدفه بتأليف هذا الكتاب بيان حكمه الشرعي بالتفصيل، بل تشجيع المسلمين على الجهاد ضد البرتغاليين الفجرة. وافتتح المصنف هذا القسم بقوله: "اعلم أن للكفار حالتين إحداهما أن يكونوا مستقرين في بلادهم؛ فالجهاد حينئذ فرض كفاية، إذا قام به من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين؛ وإلا أثموا كلهم. وثانيتهما أن يدخلوا بلاد المسلمين كما في قضيتنا هذه؛ فالجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قوي بها، ولو عبدًا وامرأة ومدينًا وفرعًا بغير إذن سيد وزوج وغريم وأصل، وعلى من دون مسافة القصر، وكذا على من فوقها إن لم يكن في غيرهم كفاية،..." ، ويتحدث عن حكم الجهاد في مثل هذا الموقف، ويقول إنه فرض على كل مسلم قوي قادر، دفاعًا عن وطنه، واحترامًا لدينه، لأن الكفار دخلوا في بلادهم عنوة وظلموهم بشتى أنواع الظلم والفتن، وهاجموا على دينهم.
وفي القسم الثاني يتكلم الإمام رحمه الله عن تاريخ ظهور الإسلام في منطقة مليبار وانتشاره فيها تحت عنوان "في بدء ظهور الإسلام في مليبار"، ويقص فيه عن قصة دخول الإسلام في هذه المنطقة، ويحلل هذه القصة كمؤرخ خبير.
وفي القسم الثالث يدور حديثه حول عادات وتقاليد وعقائد الهنادكة في مليبار في عصره، فهي تصوير صادق للأحوال الثقافية القديمة في هذا القطر الهندي، ومما ينبغي أن يذكر هنا أن الإمام هو الوحيد الذي تكلم عن عادات كفار مليبار بمثل هذه التفاصيل المفيدة، ونقل هذه الأمور بدقة متناهية وأمانة فائقة وصدق كامل.
وفي القسم الرابع يتكلم المؤلف عن وصول الإفرنج إلى بلد مليبار وعن بعض أفعالهم القبيحة، ويشتمل هذا القسم على أربعة عشر فصلًا يبين فيها عن الأحداث والتطورات التي مر عليها الاستعمار البرتغالي في هذه المنطقة لمدة 85 سنة، وعن مظالمهم وأفعالهم ومعاملاتهم القبيحة ضد أهل مليبار، ويذكر عن مصالحاتهم مع بعض ملوك الديار المليبارية وعن قلعاتهم التي بنوها فيها لمصالحهم، ثم يتكلم عن مساعدات سلاطين المسلمين من داخل الهند وخارجها في معركة أهل مليبار ضد أعدائهم المستعمرين .
المطلب الثاني: الدور التاريخي لكتاب "تحفة المجاهدين"
إن هذا الكتاب التاريخي كسب لمؤلفه الشيخ أحمد زين الدين المخدوم شهرة عالمية بين المؤرخين المسلمين والمستشرقين وغيرهم إلى أن شبهه بعض المؤرخين المعاصرين بالمؤرخ اليوناني المشهور "توسيديدس" (Thucydides) حيث وصفه بأنه "توسيديدس كيرالا" لأن طريق الشيخ يتشبه بطريقه في سرد ما شهد بعينيه من الحوادث والوقائع التي وقعت في ديار مليبار في مقاومات أهلها ومحارباتهم ضد استعمار البرتغاليين بكل صدق، مشيرًا إلى سنوات وقوعها كما تعوّد المؤرخون القدماء .
وإنه كان شاهد عيان لما واجهه أهل مليبار من طغيان البرتغاليين وقسوتهم وجورهم، فدوّن مظالمهم والأحداث الأخرى التي جرت في هذه المنطقة من سنة 904هـ / 1498م إلى سنة 991هـ / 1583م ، وسجلها بدقة في كتابه هذا، فلذلك صار مرجعًا هامًّا موثوقًا به في تاريخ مليبار بصفة خاصة، وفي تاريخ الهند بصفة عامة لتلك الحقبة الزمنية.
وإن هذا الكتاب يتضمن في طياته كثيرًا من المعلومات التاريخية الهامة عن دخول الإسلام في جنوب الهند وانتشاره في ربوعها، ويشير الإمام في مقدمته إلى أخبار وصول الإسلام إلى هذه المنطقة، واعتناق أهلها له طائعين راغبين، غير راهبين ولا مكرهين، ثم يشرح عن كفرانهم لهذه النعمة العظيمة، ويقول: "... وذلك أن جمعًا من المسلمين دخلوا في بنادر مليبار وتوطنوا فيها، ودخل أهلها في دين الله يومًا فيومًا، وظهر الإسلام فيها ظهورًا بالغًا حتى كثر المسلمون فيها وعمر بهم بلدانها مع قلة ظلم رعاتها الكفرة..، ثم بدّلوا نعمة الله كفرانًا، وأذنبوا وخالفوا، فسلط الله عليهم أهل برتكال من الإفرنج خذلهم الله تعالى..، فظلموهم وأفسدوهم واعتدوا عليهم بما لا يحصى من أصناف الظلم والفساد الظاهرة بين أهل البلاد.. حتى آلت أحوال المسلمين إلى شر مآل من الضعف والفقر والذل، وصاروا لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا.." ، وبعد هذا يحث المصنف مسلمي مليبار على القيام بواجباتهم نحو الدين والبلد، وينبههم عن فرضية الجهاد عليهم، ثم يدخل إلى الحديث عن ظلم المستعمرين في أرض مليبار وعن مقاومة أهلها ضدهم.
ويروي الإمام أحمد زين الدين المليباري في كتابه هذا قصة مشتهرة بين المليباريين عن ظهور الإسلام في جنوب الهند، إنه وصل إليها جماعة من المسلمين العرب قاصدين إلى سيلان (سريلانكا) ، فلما سمع ملك مليبار عن وصولهم دعاهم إلى قصره وأضافهم وسألهم عن أخبارهم فأخبروه بأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبأمر الإسلام وبأمر معجزة انشقاق القمر، وكان الملك قد شاهد هذه المعجزة من منطقته في ليلة من الليالي، فتأكد منها من هؤلاء، وعزم على الخروج معهم إلى مكة، فحينما رجع المسلمون من سيلان صاحبهم الملك سراً، وسافر إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولقيه وأسلم على يديه، وسمي بـ"تاج الدين"، وقيل إنه سمي بـ"عبد الرحمن السامري" .
وإن الإمام المليباري لم يوافق لهذه القصة بأنها وقعت في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يتضح من قوله بعد بيانها: "هذا خبر أول ظهور الإسلام في بلاد مليبار، وأما تاريخه فلم يتحقق عندنا، وغالب الظن أنه كان بعد المأتين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية. وأما ما اشتهر عند مسلمي مليبار أن إسلام الملك المذكور كان في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم برؤية انشقاق القمر ليلة، وأنه سافر إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتشرف بلقائه ورجع... فلا يكاد يصح شيء منها.." . ويقول أيضًا: ".. وخبر غيبة الملك المذكور مشهور عند جميع أهل مليبار المسلمين والكفرة، إلا أن الكفرة يقولون عرج به إلى فوق، ويتوقعون نزوله، ولذلك كانوا يهيئون في موضع في ‘كدنغلور’ قبقابًا وماء ويسرجون فيه في ليلة معروفة عندهم" . فهنا تظهر قدرته الفائقة في تحليل الأحداث التاريخية بكل دقة.
وهذه التفاصيل كلها تدل على مكانة هذا الكتاب ككتاب تاريخي يشرح تاريخ قوم قد حاربوا المستعمرين المحتلين في أرضهم، وتاريخ بداية احتلال الغرب في أرض الهند.
المطلب الثالث: دوره السياسي والاجتماعي
ونرى المؤلف في صفحات هذا الكتاب أنه عامل كمحلل سياسي واجتماعي، وكان أحيانًا قد تدخّل في شؤون وطنه السياسية والاجتماعية لإصلاح أحوالها حيث إنه ساعد الملك "ساموتري" على المراسلات بينه وبين ملوك وسلاطين العرب والمسلمين طلبًا لمساعدتهم ومشاركتهم في حربه ضد البرتغاليين، حتى أن سلطان مصر وسلاطين المسلمين من شمال الهند ساعدوه وشاركوا معه . فبهذه العلاقات بين "ساموتري" وبين المسلمين صارت مدينة "فناني" - مسقط رأس الإمام المليباري ومركز المسلمين المليباريين - تعتبر عاصمة ثانية لمملكته. فمن هنا يتضح أنه بتأليفه هذا الكتاب التاريخي ساهم مساهمات قيمة في المجال السياسي والاجتماعي حيث إنه تحدث فيه عن حب الوطن والدفاع عنه، والحفاظ على وحدة الأمة، وشجع الناس على المشاركة في مطاردة الأعداء من بلدهم.
وعلاوة على أنه كتاب يسرد الحوادث التاريخية والوقائع الحربية، نرى أن لمؤلفه من وراء تأليفه هدفًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وهو حث قومه المسلمين المليباريين على حماية بلدهم من ظلم أعدائه البرتغاليين المحتلين؛ وقوفًا مع حاكمهم "ساموتري راجا"، وهو بذلك قام بمسؤولته الكبيرة تجاه أمته ودينه وبلده.
وفي هذا الكتاب يصور المؤلف أيضًا في قسمه الثالث صور حالة المجتمع المليباري في عصره، وخاصة صور حالة أصحاب الديانة الهندوسية ؛ عن عاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم الغريبة، ويتحدث عن طبقاتهم المختلفة ومراتب حياتهم الاجتماعية حسبها، وعن معاملاتهم ومعايشتهم مع المسلمين. وهو تصوير صادق للأحوال الثقافية القديمة في هذا القطر الهندي. وهو يصور لنا الحياة الاجتماعية الحقيقية في أرض مليبار في تلك الحقبة الزمنية، وهي كانت معايشة سلمية بين أصحاب الأديان المختلفة تحت حكامهم، وكلهم كانوا يتمتعون بالحرية الكاملة في اختيار طرقهم الدينية والاعتقادية، ويبين أيضًا أن الأقلية المسلمة المليبارية كانت مطمئنة تحت حكم ملوك غير مسلمين يتمثلون الأكثرية الهندوسية، وأن الحكام كانوا لايفرقون بين رعاياهم المسلمين وبين غيرهم في العناية والاعتبار، بل يكرمونهم ويقدّرونهم ويعطون حقوقهم، ويشعرون بالحرية في عباداتهم ومعاملاتهم، ولا يُمنعون من ممارسة دينهم ودعوتهم، وكان لهم مكانة شرف وقربة عند حكامهم لأجل مهاراتهم في التجارة والحروب البرية والبحرية، وحبهم لبلادهم وتضحية حياتهم للدفاع عنها من الأعداء، ولأجل أن كانوا يقفون معهم ويساعدونهم في أوان الرخاء والشدة، كما أنهم كانوا أصحاب ثروة يملكون أموالًا كثيرة من خلال معاملاتهم التجارية مع تجار العرب ويعيشون بها حياة طيبة.
وقبل قدوم المستعمرين إلى مليبار كانت حالتها الاجتماعية مقتربة إلى الاستقرار والانتظام - رغم تعدد الحكام والملوك واختلافاتهم في كثير من الأمور وشدة العداوة بينهم - حيث تسودها المؤاخاة والألفة بين الناس، وحيث إنهم كانوا يعيشون كأسرة واحدة، ويعاملون معاملة الإخوة والأقرباء، ويشاركون في آلام جيرانهم وأصدقائهم منفتحة قلوبهم ومنشرحة صدورهم، ولم يمنعهم اختلاف أديانهم وتنوع اعتقاداتهم وعاداتهم وتقاليدهم من توثيق العلاقات الودية وتقوية الصداقات والأخوة بينهم. فهكذا ديار "مليبار" في جنوب الهند جعلت أرضها مسكنًا ومأوى لكل الناس من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والألوان والبلدان، ويشير المصنف إلى هذه الحالة المطمئنة حيث يقول: "... وليس للمسلمين في جميع ديار مليبار أمير ذو شوكة يحكم عليهم، بل رعاتهم الكفرة يحكمون عليهم بضبط أمورهم وتغريمهم المال إذا صدر من أحد منهم ما يقتضي الغرامة عندهم، ومع هذا فللمسلمين فيما بينهم حرمة وعزة لأن أكثر عمارات بلادهم بهم، فيمكنون من إقامة الجُمع والأعياد، ويعينون الوظائف للقضاة والمؤذنين، ويعينون في إجراء الأحكام الشرعية بين المسلمين، ولا يرخصون في تعطيل الجمعة، فمن عطلها آذوه وغرموه المال في أكثر البلاد، وإذا صدر من مسلم ما يقتضي قتله عندهم قتلوه بإذن كبراء المسلمين، ثم يأخذه المسلمون ويغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه صلاة الجنازة ويدفنونه في مقابر المسلمين، وإذا صدر من كافر ما يقتضي قتله قتلوه وصلبوه وتركوه في مقتله حتى يأكله الكلاب وأبناء آوى. ولا يأخذون منهم إلا العشور في التجارات، وإلا الغرامات إذا صدر منهم ما يقتضي الغرامة عندهم، ولا يأخذون الخراج من أصحاب الزراعات والبساتين، ولو كثرت. ولا يدخلون داخل بيوت المسلمين بغير إذنهم إذا صدر منهم جراءة ولو قتلًا بظلم، بل يكلفونهم إخراج صاحب الجراءة من بينهم بالملازمة والإضرار بالتجويع ونحوه، ولا يتعرضون لمن أسلم منهم بأذى، بل يحترمونه كاحترام سائر المسلمين، ولو كان عندهم من أسافلهم، وكان تجار المسلمين في الزمان القديم يجمعون له ما يرتفق به" .
وفي الحقيقة أن تنوع الأديان والثقافات لم يدفع المليباريين إلى اختلاف آرائهم وتفرق صفوفهم، بل إن وحدتهم حرّضتهم على تقوية الدوافع الوطنية في قلوبهم والألفة الودية بينهم، ولكن هذا المجتمع المليباري كان يخرج أحيانًا عن ساحة هذا التآلف والتحابب بأسباب ناشئة في بعض ظروف طارئة، كما أشار المصنف إلى مثال لذلك، حيث يبين عن حادثة وقعت في سنة 931هـــ بين اليهود والمسلمين في منطقة من مناطق مليبار بسبب قتل اليهودي رجلًا من المسلمين فوقع القتال بينهم ، ولكن مثل هذه الواقعة في ذلك العصر لم يحدث إلا نادرًا جدًّا. وكيفما كان الأمر فإن المليباريين كانوا يحافظون على هذه المؤاخاة المثالية ويلتزمون بها في كل شؤونهم ومعاملاتهم حتى تشكلت في ديار مليبار أعراق بشرية ممزوجة بالأنواع المختلفة.
ورغم حالة المجتمع المليباري كانت هادئة مطمئنة بهذا الشكل؛ كان المجتمع الهندوسي في داخله منقسمًا إلى الطبقات المختلفة، فكانت هناك طبقة عليا متنعمة، وأخرى طبقة سفلى فقيرة معدمة، وبينهما طبقات استفادت من كلا الطبقتين، وكلها تتباعد عن الأخرى في العادات والتقاليد. وكان الهندوسيون أكثر المليباريين عددًا، وحياتهم كانت مملوءةً بالعادات والتقاليد الغريبة العجيبة التي قسمتهم إلى الطوائف والطبقات المختلفة.
وإلى هذه الطبقات المختلفة وعاداتها الغريبة أشار الشيخ المليباري بقوله: "... ومنها أنه إذا مات كبيرهم كالأب والأم وكبير الإخوة بالنسبة إلى البراهمة والنجارين وأمثالهم، وكالأم والخال وكبير الإخوة بالنسبة إلى النيار ومن قاربهم يتجنبون سنة كاملة غشيان النساء، وأكل الحيوانات والتنبول ، وحلق الشعر وقلم الأظفار، ولا يخالفون هذه العادة، ويرون فيها قربة إلى الأموات، ومنها أن الإرث في طوائف النيار ومن قاربهم لإخوتهم من الأم وأولاد أخواتهم أو خالاتهم أو قرابتهم من جهة الأم؛ لا للأولاد مالًا وملكًا....، وأما البراهمة والصاغة والنجارون والحدادون والفازانيون والسماكون وغيرهم فالإرث فيهم للأولاد؛ ولهم نكاح، وأما النيار فليس لهم من النكاح إلا عقد خيط في عنق المرأة في أول مرة ثم الأمر على حسب الحال، العاقد وغيره سواء، وأما البراهمة فإذا كانوا إخوة عديدة لا ينكح إلا أكبرهم سنًّا ما لم يتحقق أنه لايولد له، والباقون لا ينكحون لئلا يكثر الورثة فيقع الخلاف، بل ينضمون إلى نسوان النيار من غير نكاح، وإذا حصل لأحدهم من إحداهن الولد فلا يورثونه، وإذا تحقق أن الأكبر لا يولد له نكح غيره..." .
وإنهم كانوا مضطرين إلى تكاليف كثيرة بسبب هذه العادات، فمثلًا: إن الطوائف العليا تبتعد عن الأخرى حتى لا تختلط مع الآخرين ولا تقترب منهم، فإذا وقعت الملامسة بين الطوائف العليا والسفلى أو التقارب بينهما إلى حد غير مسموح فلا بد من الغسل للعليا، ولا يجوز الأكل إلا بعد الغسل، فلو أكل قبل الغسل انحط عن مرتبته وأُخرج عن طبقته القديمة، فلا خلاص له إلا بالفرار إلى موضع بعيد عن أهله، وإلا يأخذه حاكم البلد ويبيعه لمن هو أدنى منه مرتبة. ولا يجوز للأعلى أن يأكل طعامًا طبخه الأدنى، فإن أكله خرج عن مرتبته أيضًا، وإن البراهمة أعلى مراتب الهندوسيين، ثم يليهم النيار ودونهم الفازانيون والنجارون والحدادون والصائغون والسماكون وغيرهم، وبعدهم أصناف أخرى يعتادون الحراثة والزراعة، وكم مثل هذه من التكاليف التي التزموها على أنفسهم جهلًا وسفاهة، وجعل الله هذه كلها أسبابًا لسآمتهم من عاداتهم وتقاليدهم وسبلًا لانتشار الإسلام بينهم .
وهذه كلها صور حقيقية لحياة المليباريين الاجتماعية والسياسية صورها الشيخ المليباري في كتابه "تحفة المجاهدين".
المبحث الثالث: قراءة عصرية لكتاب "تحفة المجاهدين"
وإن كان هذا الكتاب قد أُلف أصلاً لغاية مؤقتة؛ ولكن أهميته قائمة حتى اليوم، وهي الدفاع عن الوطن العزيز من هجوم الأعداء عليه، وحث المسلمين على القيام بالجهاد ضد أعداء بلادهم. فنرى من هذا الجانب أن مضمون هذا الكتاب مَواقف عالم كبير تساعد الأمة الإسلامية على الهدي الصحيح وترشدهم إلى الحق والصواب في كثير من قضاياهم وأمورهم في أي زمن من الأزمان وفي أي مصر من الأمصار. ولذا نجد له أهمية ومكانة كبيرة حتى في عصرنا هذا، لكي نستطيع الوقوف مع مواقف عالم كبير قاد الأمة المسلمة المليبارية، بل الأمة الإسلامية بأجمعها إلى نهضة علمية وثقافية واجتماعية في أواخر القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي.
ونستطيع أن نفهم من سطور هذا الكتاب أن المؤلف يؤكد من خلالها على بعض الأمور المهمة التي يمكن الاستنباط منها ما يفيد لأقلية الهند المسلمة؛ بل لأقلية مسلمة في أي بلد في العالم؛ في حياتهم الاجتماعية والسياسية في هذا العصر، ومنها:
حب الوطن وخدمته: إن هذا الكتاب ألفه مؤلفه لتنشيط المسلمين على دفاع البلد من الأعداء، ولتشجيعهم على حب الوطن وحمايته من الفساد والهلاك، فهو يذكرهم بأن حماية البلد مسؤولية للكل، فعلى الكل أن يساعدوا الحكام في أمور البلد ولو كانوا على غير دينهم، وأن الإسلام دين يحرض على حب الوطن.
وفي هذا الكتاب حث المؤلف رحمه الله المسلمين على قتال البرتغاليين المستعمرين وقوفًا مع حاكمهم الهندوسي "ساموتري راجا" دفاعًا عن بلدهم من الأعداء، وهو أيضًا شارك مع الملك في بعض أموره الدبلوماسية لكي يحصل على المساعدات الخارجية في هذا الحرب، حيث قام بالمراسلات بينه وبين ملوك وسلاطين العرب والمسلمين، حتى أن سلطان مصر وسلاطين المسلمين من شمال الهند ساعدوه وشاركوا معه في حربه ضد البرتغاليين المستعمرين . والمؤلف لم يقم بهذه الأمور الديبلوماسية ولم يؤدها إلا لرفع شأن دينه ووطنه وشأن المسلمين والمليباريين. فهذه المواقف القيمة كلها تسببت لتوطيد العلاقات القوية بين "ساموتري راجا" وبين رعيته المسلمين.
ويقول في بداية كتابه إن هذا الجهاد فرض على كل مسلم مكلف قوي لأن الأعداء دخلوا في ديار مليبار عنوة . ويوضح أيضًا أن مساعدة الحكام في أمور الحكم وحماية البلد من الفساد والهلاك مسؤولية لكل الشعب طالما أنهم يتولون الحكم قانونيًّا ويحكمون بالعدل والمساوات. وبهذا الكلام يُنبت المؤلف في قلوب المسلمين شعور المسؤولية تجاه البلد وشعور حب الوطن.
العلاقة الودية بين أصحاب الأديان المختلفة: ويبين المؤلف أيضًا في كتابه عن العلاقات الودية بين أصحاب الأديان المختلفة وعن المعايشة السلمية بينهم في المجتمع المليباري. ويشير إلى أن المليباريين رغم اختلافهم في الأديان والألوان والثقافات والعادات والتقاليد، كانوا يتعاملون بينهم بالمؤاخاة والإلفة والصداقة التي تعتبر روح الحياة الاجتماعية المليبارية . وشجع المسلمين على أن يكونوا مع جيش حاكمهم "ساموتري" في صف واحد في حربه ضد البرتغاليين المستعمرين مع أن معظم جيشه غير المسلمين، وساعده هو نفسه بكل ما عنده من الحيل والحكم والخبرات والعلاقات، فلعب المسلمون دورًا مهمًّا في جيش الملك وفي معركته ضد أعدائه البرتغاليين. فحقًّا إن هذا الكتاب وثيقة تاريخية مهمة تدل على الأخوة القائمة بين الهندوس والمسلمين والوداد بينهم.
الاهتمام بوحدة الأمة الإسلامية: إن الشيخ أحمد زين الدين المليباري أهدى هذا الكتاب كتحفة إلى السلطان علي عادل شاه، الملك الخامس من سلالة عادل شاهي. والأمر المهم هنا أن السلطان كان على مذهب الإمامية الشيعية، ولكن لم يمنع مذهبه هذا المؤلِّفَ من أن يقدم هذا الكتاب إليه ويطلب منه مساعدته لمسلمي مليبار على أعداءهم لأنه كان يهتم بأمور المسلمين كلهم على السواء، وكان في مقدمة المجاهدين المقاومين ضد البرتغاليين الظالمين، وأشاد المؤلف بدوره الذي أداه في تلك المعارك، وكان معجبًا ببطولات هذا السلطان، فهو يثني عليه أطيب الثناء، ويطريه غاية الإطراء لمواقفه المشهورة من فجرة البرتغاليين . وموقف المؤلف هذا يوضح لنا أهمية وحدة الأمة في أمورهم العامة رغم اختلافاتهم في المسائل الفروعية وغيرها، لأن الأعداء دائمًا يحاولون التفريق بيننا لكي نكون ضعفاء أمامهم حتى يستطيعون الغلبة علينا بسهولة. فعلينا أن ننتبه عن وحدتنا في أمورنا ومصالحنا العامة.
مسؤولية العلماء تجاه المجتمع: إن المؤلف رحمه الله عالم فقيه مشهور في العالم، ولكنه لم يقض حياتَه مشتغلاً بالتدريس وعكوفاً على المطالعة وولوعاً بالتأليف فحسب؛ بل قضى حياتَه أيضًا كقائد سياسي محنك، ومجاهد كبير، واستراتيجي عظيم، وعالم مؤرخ، ولم يعش حياة في الأسوار غافلاً عن متطلبات العصر، ومنعزلاً عن الحياة العملية، وغير مبال بالمجتمع والوطن. وإنه أدرك خطورة الاحتلال البرتغالي في بلده؛ فقام بكل إخلاص بالدفاع عن وطنه العزيز من العدوان البرتغالي، وحرض إخوته المسلمين وغيرهم على المقاومة ضد أعدائهم، ونفخ روحًا إسلامية وشعلة إيمانية في نفوس المسلمين للكفاح ضد البرتغاليين الاستعماريين. وهذا هو الهدف الأهم في وراء تأليف هذا الكتاب. فمن هنا يتضح أن العالم الرباني هو يعايش الأمة والمجتمع في سرائهم وضرائهم؛ ويشارك معهم في سرورهم وآلامهم وأحزانهم ويقودهم إلى الحق والصواب.
الخاتمة: وفي ختام هذا البحث المتواضع ننتهي إلى إثبات عدة حقائق:
1- إن كتاب "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين" من أهم المؤلفات للشيخ أحمد زين الدين المخدوم المليباري، وهو ألفه لهدف موقت وهو مقاومة البرتغاليين الاستعماريين الذين حاولوا احتلال ديار مليبار (ولاية كيرالا الهندية) وقاموا بأنواع من الأعمال الوحشية ضد المليباريين.
2- إن هذا الكتاب يشتمل على مقدمة وأربعة أقسام، والقسم الأول في بعض أحكام الجهاد وثوابه والتحريض عليه، والقسم الثاني في تاريخ ظهور الإسلام في منطقة مليبار وانتشاره فيها، والقسم الثالث في بيان عادات وتقاليد وعقائد الهنادكة في مليبار في عصره، والقسم الرابع في بيان وصول البرتغاليين إلى مليبار وأفعالهم القبيحة ومعركة أهل مليبار ضدهم.
3- إن لهذا الكتاب دورًا تاريخيًّا حيث إنه يبين تاريخ دخول الإسلام في ديار مليبار وتاريخ بداية الاستعمار الغربي في الهند وتاريخ معركة أهل مليبار ضد المستعمرين البرتغاليين.
4- وله أيضًا دور سياسي واجتماعي حيث يقوم مؤلفه من خلال صفحاته ببيان الأحوال السياسية والاجتماعية لهذه المنطقة في تلك الحقبة الزمنية.
5- وإن كان هذا الكتاب قد أُلف أصلاً لغاية مؤقتة؛ ولكن أهميته قائمة حتى اليوم، لأنه ينبت في قلوبنا حبًّا لوطننا ولإخواننا الوطنيين من مختلف الأديان والألوان واللغات والثقافات، ويشجعنا على إقامة علاقة ودية مع إخواننا الهندوسيين وغيرهم، وينبهنا عن وحدة الأمة وعن مسؤوليتنا تجاه بلدنا وحكامه، كما أنه يذكرنا مسؤولية عالم رباني تجاه دينه ووطنه ومجتمعه.
المصادر والمراجع
1- كحالة (عمر رضا كحالة): معجم المؤلفين، مكتبة المثنى- دار إحياء التراث العربي، بيروت/ لبنان، بدون تاريخ.
2- حسين (د. حسين. سي. اس): مساهمة علماء مليبار في الأدب الفقهي، رسالة الدكتوراه، جامعة كاليكوت، كيرالا/ الهند.
3- النمر (د.عبد المنعم النمر): تاريخ الإسلام في الهند، دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة، 1959م.
4- المليباري (عبد النصير أحمد الشافعي): تراجم علماء الشافعية في الديار الهندية، دار البصائر، القاهرة/ مصر، 2012م.
5- المليباري (أحمد زين الدين بن محمد الغزالي بن زين الدين المخدوم: ت1028هـ): فتح المعين بشرح قرة العين، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، 1424هـ.
6- المليباري (أحمد زين الدين بن محمد الغزالي بن زين الدين المخدوم: ت1028هـ): تحفة المجاهدين في بعض احوال البرتغاليين، تحقيق: حمزة جيلاكودان، مكتبة الهدى، كاليكوت، الهند، 1996م.
7- المليباري (أحمد زين الدين بن محمد الغزالي بن زين الدين المخدوم: ت1028هـ): تحفة المجاهدين في بعض احوال البرتغاليين، تحقيق: محمد سعيد الطريحي، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1405هـ.
8- اللكنوي (الشيخ عبد الحي بن فخر الدين الحسيني: ت1341هـ): نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنظائر، دار ابن حزم، بيروت، 1420ه.
9- الشالياتي (أحمد كويا بن علي المليباري: ت1374هـ): أسماء المؤلفين في ديار مليبار، تحقيق: عبد النصير المليباري، دار النور المبين، عمان/ الأردن، 1434هـ.
10- الساداتي (د. أحمد محمود) تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم، مكتبة الآداب، القاهرة، 1959م.
11- الزركلي (خير الدين الزركلي)، الأعلام، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين، بيروت/ لبنان، 1980م.
12- الألوائي (د. محيي الدين الآلوائي): الدعوة الإسلامية وتطورها في شبه القارة الهندية، دار القلم، دمشق، 1986م. 13- Randathani, Dr. Husain. Makhdoomum Ponnanium(Makdum and Ponnani). Ponnani: Ponnani Juma Masjid Committee.
14- Hamza.C. Thuhfathul mujahideen paribhasha. Irshad Publications, Kerala.