Thursday , 21 November 2024 KTM College
Literature

قصيدة البردة لتميم البرغوثي: قرائة تحليلية

30-June-2022
أحمد شافعي
باحث الدكتوراه بكلية الجامعة- جامعة كيرالا

 المدائح النبوية تشكل حيزاً واسعاً في الأدب العربي خاصة، والأدب الإسلامي بصفة عامة. والمديح هو غرض من أغراض الشعر العربي الرئيسية قديمًا وحديثًا، وهو في الأصل تعبير عن إعجاب المادح بصفات مثالية، ومزايا إنسانية رفيعة يتحلى بها شخص من الأشخاص أو أمة من الأمم. والمديح النبوي، هو ذلك الشعر الذي ينصب على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بتعداد صفاته الخلقية والخُلقية، وإظهار الشوق لرؤيته، وزيارته، والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته، مع ذكر معجزاته الماديّة، والمعنويّة، ونظم سيرته شعرًا، والإشادة بغزواته، وصفاته، والصلاة عليه تقديرًا وتعظيمًا.
عرف الأدب العربي أشكالا مختلفة من المدائح النبوية. فهي تُعَد من الأغراض الشعرية التي بدأت في حياة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم انتشرت بعد وفاته، ولا تزال قرائح الشعراء تجود بمدحه صلى الله عليه وسلم على مدى الدهور. المدائح النبوية منذ سيرتها الأولى، وهي تقوم بدورها في الدفاع عن المصطفى، وفى نقض ما قاله شعراء قريش في هجاء حبيب الله؛ ومن أبرز المدافعين والمتصدين لهؤلاء هو شاعر النبي حسان بن ثابت، والذي يعد شعره نواة المدائح النبوية، والنموذج الذي حاكاه كثير من شعراء المديح النبوي فيما بعد.
ومن أبرز هذا الفن قصيدة البردة التي قيل إنها أشهر قصيدة مدح في الشعر العربي، وانتشرت انتشارا واسعا وترجمت إلى العديد من اللغات مثل الفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية، لكن بقي أصلها العربي -بموسيقاه وتصاويره وألفاظه ومعانيه- مميزا بين درر الشعر العربي.
قصيدة البردة
البُردَة كساء يلتحف به، وأطلق اسماً على القصيدة اللامية: "بانت سعاد"، التي مدح بها كعب بن زهير النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث ألقاها كعب بن زهير بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام طالبا العفو، فأعجب النبي بقوله وعفا عنه وكساه بُردته الشريفة التي خلعها عليه فسميت القصيدة على اسمها. ودخل كعب الإسلام بعدما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لإيذائه المسلمين بشعره، وتعرضه لنسائهم، وهجائه النبي عليه السلام. وتبدأ قصيدة كعب بن زهير بالغزل على عادة الشعراء العرب في ذلك الوقت، ويفتتحها قائلا:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيّمٌ إثْرَها لم يُفدَ مكبولُ

لكن القصة لا تنتهِ عند هذا الحد، فقد أصبحت "البردة" تقليدا شعريا للشعراء الذين ينظمون المدائح النبوية، وعارضها شعراء كثيرون على القافية نفسها، واقتبسوا من ألحانها وأوزانها وصورها الفنية وبلاغتها الجمالية. وينتقل كعب في قصيدته من التغزّل بسعاد، إلى الندم والاعتذار، ثم شعر الحكمة والرضا بالقدر، حتى يمدح النبي بفصاحة وجزالة شعرية راجيا العفو عما بدر منه:
أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمولُ
وبعد كعب بن زهير يأتي شرف الدين بن هلال الصنهاجي الذي ولد في قرية "بوصير" ببني سويف في صعيد مصر قرابة 608 للهجرة. وفي العصر الذي اشتهر بالمتصوّفة الكبار مثل أبي الحسن الشاذلي وأبي العباس المرسي وغيرهما، اشتهرت المدائح النبوية الشعرية وتميزت بالرصانة وجمال التعبير وقوة العاطفة. وإضافة إلى شعره المتنوع بين المديح والعتاب والهجاء والشكوى، اشتهر البوصيري بقصيدته المطوّلة التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم وتميزت بجودتها وبلاغتها مقارنة بأشعاره الأخرى، وبدأها قائلا:
أمِنْ تَــذَكِّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَم مَزَجْتَ دَمعــا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ
وتتكون بردة البوصيري من قرابة 160 بيتا، قُسمت إلى عشرة أجزاء بدأها بالغزل البريء والنسيب النبوي، ثم التحذير من هوى النفس، ومدح النبي الكريم، وذكرى مولده الشريف، ومعجزاته، والإسراء والمعراج، وجهاد الرسول، قبل أن يختمها بالتوسل والتشفّع والمناجاة والتضرّع. وقد قيل إنه أصيب بالفالج، فنظمها مادحاً النبي صلى الله عليه وسلم ومستشفعاً به، فرآه في المنام يمسح على وجهه ويلقي عليه بردته فبرئ. والباحثون والمؤرخون يجمعون على أن "البردة" من أفضل وأعجب قصائد المديح النبوي إنْ لم تكن أفضلها على الإطلاق، وقد تُرجمت إلى عدة لغات أجنبية، لما تحظى به من مكانة روحية وفكرية كبيرة، جعلتها أيقونة المديح النبوي، منذ أن خطها الإمام البوصيري، في القرن السابع الهجري. وعنى العلماء والأدباء والمتصوفون بالقصيدتين، فألفت حولهما الشروح والمختصرات، وأنشدتا في الأذكار، وترجمتا إلى كثير من اللغات.
ألهمت البردة الكثيرين من الشعراء والأدباء والعوام على مر العصور، وأشهر من نهج على نهج البوصيري هو أمير الشعراء أحمد شوقي من 191 بيت، مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
فنظم "نهج البردة"، التي وإن سارتْ على نهج القصيدة الأشهر في مدح النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا أنها شكّلت قيمة مضافة جديدة، بما احتوته على معان وتعبيرات ومفردات جادت بها قريحة "شوقي" الذي لم يبدُ صادقًا صدقه في "نهج البردة"، ولا يفوت "شوقي" الإقرار بفضل ناظم "البُردة"، باعتباره صاحب السبق فمدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث يخاطب الأخير قائلًا:
المادحون وأرباب الهوى تبع لصاحب البردة الفيحاء ذي القدم
ومثل شوقي تكلّم الشاعر المصري الكبير محمود سامي البارودي بقصيدة سماها "كشف الغمة في مدح سيد الأمة"، وبدأ البارودي بالنسيب، وتجاوزه لشعر الحكمة، ثم تناول سيرة النبي بما في ذلك نزول الوحي والغزوات، وقال محاكيا البوصيري:
أم كيف تخذلني من بعد تسميتي باسم له في سماء العرش محترمِ
وهناك أيضا شاعر مسيحي ينضمُّ إلى زمرة مداحي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث عارض قصيدة "نهج البردة"، وصاغ أبياتًا تشعُّ صدقًا وإخلاصًا ويقينًا. فهو الشاعر السوري "ميخائيل خير الله ويردي"، الذي عاش بين عامي 1904 – 1951، وأما القصيدة العصماء فهي "أنوار هادي الورى"، التي تقع في 124 بيتًا من "البحر البسيط ". التزم نهج المعارضات في المدائح النبوية الشهيرة، ففعل مثلما فعل أسلافه من شعراء المدائح النبوية، فنسج على منوالهم.
والشاعر المعاصر خالد الشيباني أنشأ قصيدة أنوار البردة التي تجاوز فيها عدد أبيات قصيدتي البوصيري وأحمد شوقي متبعا نفس الوزن من بحر البسيط والقافية الميمية فقد تجاوزت أبيات قصيدة "أنوار البردة" للشيباني مئتي بيت لتصبح أطول القصائد المكتوبة على غرار بردة البوصيري بنفس القافية الميمية ؛ كما التزم "الشيباني" بما لم يلتزم به البوصيري وشوقي أو أي ممن كتب قصيدة على غرار بردة البوصيري بأن التزم بكون أبياتها دون تكرار كلمة بنفس الرسم في القافية أو حتى نهاية الشطر الأول لتكون متفردة في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أبياتها
يا آية الطهر والأخلاقِ والكرمِ وقِبْلةَ النورِ والتشريفِ للأممِ
بردة تميم البرغوثي
يُعد الشاعر الفلسطيني والكاتب والمحلل السياسي تميم البرغوثي الشاعر العربي الأكثر شهرةً بين أبناء جيله. وهو ابن عائلةٍ أدبيةٍ عريقة؛ فوالده الشاعر والكاتب مريد البرغوثي، ووالدته الأديبة رضوى عاشور. وُلد تميم في القاهرة عام. طُرد والد تميم من مصر بعد أربعة أشهر من ولادة ابنه، وذلك بعد أن شرعت الحكومة المصرية في عملية سلام مع إسرائيل وطرد معظم الفلسطينيين من مصر. لم يُسمَح لوالده بالعودة إلى مصر حتى عام 1995. ولم يشاهد الأب ابنه في هذه الأثناء إلّا خلال عطلات الشتاء لمدة لا تزيد عن ثلاثة أسابيع في بودابست، حيث عاش هناك في المنفى لمدة ثمانية عشر عامًا. تعلَّمَ تميم في بودابست اللغة الهنغارية، كما اكتسب تميم خلال تعليمه في القاهرة قدرٌ ممتاز من اللغة الإنجليزية والقليل من اللغتين الفرنسية والإيطالية. ورث تميم ميوله الأدبية من والديه، وهما الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي والروائية المصرية رضوى عاشور. وانخرط منذ الطفولة في الواقع السياسي للعالم العربي، بالطريقة التي تؤثر على الجوانب الشخصية لحياة الفرد، وكذلك في الوسائل الأدبية للتعبير عنها. وقد نشر قصيدته الأولى عندما كان عمره 18 عامًا.
وقد أكمل تعليمه الابتدائي والثانوي في أثناء تنقله بين مصر والمجر في طفولته. ثم حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1999م من جامعة القاهرة، وماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأمريكية عام 2001م. وبعد ذلك غادر مصر متوجهًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لإكمال دراساته العليا، وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بوسطن في عام 2004م. وعمل أستاذًا للدراسات السياسية في جامعة جورج تاون "Georgetown University"، التي تقع في مدينة واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية.
قدّم الشاعر تميم البرغوثي العديد من قصائده، يغلب على قصائده الطابع السياسي والوطني حيث يعرض تحليلاته السياسية على هيئة قصائد أدبية. فكانت أول قصيدة ينظمها وهو في سن الثامنة عشر من عمره وهي قصيدة "الله يهديها فلسطين"، والتي كُتبت باللغة العامية الفلسطينية، وفي شبابه نظم قصيدة في القدس والتي قدّمها في مسابقة أمير الشعراء عام 2007م، ولُقّب من بعدها بِـ "شاعر القدس"، إذ أصبحت هذه القصيدة حديث الحاضر فمنحته النجوميّة والشهرة الواسعة، فقد شكّلت قصيدته تلك الأساس والأهم في العديد من الأمسيات الشعريّة. ففي عام 1999م نشر أول ديوان شعري بعنوان "ميجنا" وكان عمره 22 سنة، إذ كتب الديوان باللهجة الفلسطينية، وبعدها بعام كتب ديوانه الثاني بعنوان المنظر، والذي كان باللهجة المصرية.
عُرف تميم البرغوثي بأنه الشاعر الذي جمع بين اللهجة الفلسطينية والمصرية في أشعاره، كما أنه أبدع في فضاء القصيدة الفصحى، إذ نوّع بكافة الموضوعات والأغراض الشعريّة، ولكنه كرّس قصائده بشكل أكثر في القضية الفلسطينية والدفاع عنها، أما أسلوبه الأدبي الشعري فقد تنوّع بكافة الموضوعات أيضًا، ومنها: الرثاء، والقص، والوصف، إضافة إلى إبداعه بالجمع في التشكيل والعروض، مثال ذلك قصيدته في القدس والتي ألقاها في مسابقة أمير الشعراء، ففاز بالمركز الخامس حينها، إذ كانت القصيدة تجمع بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة، كما أجراها على بحرين عروضين هما البحر الطويل الذي جاء على المقطع الأول من القصيدة وهو المقطع العمودي، ثم البحر الكامل الذي أجراه على المقطع الثاني.
كتب الشاعر تميم البرغوثي العديد من الأعمال الأدبية والشعريّة، إذ كانت كتبه الأدبيّة هي عبارة عن كتب سياسية تناقش قضية الدولة والاستعمار، ومن هذه الكتب كتاب الأمة والدولة، وكتاب دولة ما بعد الاستعمار، وكتاب حرب فسلام وحرب أهلية، وكتاب القدور المشققة. فهذه الكتب ناقشت مواضيع سياسية بيد أنها غير منشورة إلّا بنسخ ورقية متوفرة في المكتبات.
ومن مؤلفاته الأخرى:
الوطنيّة الأليفة: تناول الكتاب الفترة التاريخية في الوطن العربي، إذ تتبع تميم الأحداث الوطنية وسجّلها، وأضاف في نهاية كل حدث تحليلا خاصا به، يعتمد على دراسته الثقافية في العلوم السياسية.
في القدس: هي مجموعة شعرية من القصائد التي نظمها تميم البرغوثي وخصّها في القدس، إذ انقسم الديوان إلى 23 قصيدة، من بينها قصائد سًميت بأسماء مدن فلسطين، وقصائد أخرى تدعو إلى التمسك بالأرض والدفاع عنها في وجه العدو.
يا مصر هانت وبانت: هي مجموعة شعرية كتبها الشاعر باللهجة المصرية، والتي أضاء بها على بعض المواقف السياسية آنذاك، وحاول الشاعر من خلال قصائده أن يبعث في روح الشعب المصري قوة المقاومة والشجاعة في الصبر على الأحداث.
المنظر: هذا الكتاب عبارة عن ديوان انقسم إلى جزأين: الجزء الأول هو مجموعة من القصائد المكتوبة باللهجة المصريّة والتي توزعت بين شعر التفعيلة والشعر العمودي، أما الجزء الثاني فهو عبارة عن مجموعة سُميت بالأغاني والتي كتبها تميم باللهجة المصرية أيضًا.
قالوا لي بتحب مصر قلت مش عارف: هي عبارة عن مجموعة شعريّة كتبها الشاعر تميم ليصفَ مصر، ومدى حبه وتعلقه بها، إذ كان في أغلب القصائد يمدح مصر، ويعرض سبب محبته لها، كما كانت هذه القصائد باللهجة المصرية التي كتب بها الشاعر كامل الديوان.
وتميم البرغوثي من المتأخرين الذين عارضوا البردة و"نهجها" في قصيدة بلغت المائتي بيت وقد أبقي على البحر البسيط وغيّر الروي في معارضته من قافية الميم الى الدال لينأى بنفسه عن تكرار المعاني التي شرب صِرفها الامام البوصيري في بردته ثم اتى على ثمالتها احمد شوقي في قصيدته نهج البردة. والمعارضة هي إنشاء قصيدة على وزن وقافية أخرى. وفيها كما يقول «تميم البرغوثي» في تقديمه لبردته؛ «تحية من اللاحق للسابق، وهي، حتى بعد الاعتراف بالفضل للمتقدم تبقى عملا فيه قدر من المخاطرة، لأن فيها شبهة مما سماه «أحمد شوقي» نفسه «تجاوزا للقدر»، ولأنها نص يعتمد في جزء من معناه على الأقل، على نص سابق له، فلا يكتمل معناه إلا بمعرفة القارئ للنص الأول، ثم هي مخاطرة لأن كتابتها، في زمننا هذا، ربما تشكل تحديا لمنهجين سائدين في الثقافة العربية، تكون عند أولهما تمرُّدا على الحداثة، وعند الثاني تجرؤا على التراث. لذلك ربما احتجت في كتابتها إلى توضيح السياق. وقد اشار البرغوثي الى الشاعرين في القصيدة وسبْقِهِما له في المدح النبوي بقوله:
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ حَاكَ بُرْدَتَهُ بِخَيْرِ مَا أَنْشَدَ المَوْلَى وَمَا نَشَدَا
وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ جَاءَ مُتَّبِعَاً حَتَّى شَفَى غُلَّةً مِنْهَا وَبَلَّ صَدَى
ومحمد ابن سعيد هو اسم الامام البوصيري كما هو معلوم، واحمد ابن علي هو اسم احمد شوقي.
كتب البوصيري بردته مادحاً ومستنجدًا بخير الأنام بينما خيول المغول تسحق بغداد، والعشرات من عواصمنا قبلها وبعدها. والأسبان يحصرون الأندلس في جيب غرناطة الصغير، عدوها من أمامها، والبحر من خلفها. والصليبيون يأخذون القدس صُلحاً من «الكامل الأيوبي» ملك مصر بعد أن حررها جده العظيم. وما زال سرطانهم يتجذر في سواحل شامنا المريض. يتلاعبون بحكامنا السفهاء، ويستنصر هؤلاء بهم على بعضهم. وكتب أحمد شوقي على نهجها في زمن الاحتلال الشامل لكافة أراضينا من مستعمري الشرق والغرب، وذبول آخر رموز الوحدة بإعلان وفاة رجل الخلافة العثماني المريض.
لم يكتف الشاعر باستحضار التراث الشعري فقط، وإنما أقام قصيدته شاهدة على التاريخ المتكرر بمآسيه المستمرة منذ قدم. وهو بذلك يُحسِن اقتناص اللحظة التاريخية ويُدخِل ضمن أحداثها كشاهد عدل غير محايد، بل منحاز إلى حق قومه وأهله، ثم هو لا يرى أن الجرح مستجد ولكنه جرح واحد لم يندمل منذ ابتليت به. هنا يلقي تميم البرغوثي بردته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، بينما أمته مقبلة على ربيع منتظر لم يلبث أن تحوَّل إلى صيف محرق. ومن وهن إلى وهن، ومن تمزق إلى تشرذم وتفتت. ومن دول وأشباه دول إلى دويلات متصارعة، وتفترش الدول الكبرى أجسادها ودماءها في حلبة صراعها على المصالح والنفوذ والأيديولوجيا.
وَقَسَّمُونا كَمَا شَاؤُوا فَلَو دَخَلُوا مَا بَيْنَ شِقَّي نَواةِ التَّمْرِ مَا اْتَّحَدَا
وتميم يرى أن المأساة واحدة. وأنه لا جديد تحت الشمس. وأن مكمن الداء هو لم تمتد له يدُ طبيب. نفس العدو المتربص، نفس الحكام المستبدين المُذلين، نفس الشعوب المقهورة سواءً قامت أو استكانت
إِنَّ الزَّمَانَيْنِ رَغْمَ البُعْدِ بَيْنَهُمَا طَابَقَا فِي الرَّزَايَا لُحْمَةً وَسَدَى
يا سَيِّدِي يَا رَسُولَ الله يَا سَنَدِي هذا العِرَاقُ وهذا الشَّامُ قَدْ فُقِدَا
فيرفع شكواه إلى المصطفى، لان الامة المسلمة منفيون في أراضيها، غريبون في أوطانها. دماؤهم تفيضُ هدراً من صميم قلبهم في العراق والشام. ولا تملك في أكثر الأحوال إلا العجز والدموع. فلا بأس أن نستنجد بجذرِ هذه الأمة، محمدنا عليه الصلاة والسلام. الذي أقامها الله به من العدم، وأودع في وحيه إليه سر حياتها ووجدانها.
والشاعر يكرِّس أكبر قسم من بردته في مدح الإنسان النبي قبل النبي الإنسان. وهو آخر صلة الوحي بين الأرض والسماء، لكنه كان معنا في هذه الأرض، وتحيط بروحه الكريمة نفس اللحم والدم. رسول الله خير البشر، الذي حمل همَّنا من قبل أن نوجد، بل شاركنا فيه. وكان مخاض الدعوة عسيراً عليه، منذ أول ضمة لجبريل في حراء وهو يقرئُه أول آية القرآن.
بَمَا أَتَى بَيْتَهُ فِي الليْلِ مُرْتَعِدَاً وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَظِيمِ الخَطْبِ مُرْتَعِدَا
وَقَدْ تَدَثَّرَ لا يَدْرِي رَأَى مَلَكَاً مِنَ السَّمَاءِ دَنَا أَمْ طَرْفُهُ شَرَدَا
والرسالة الواضحة من الشاعر إلى هذه الأمة المنكوبة التي يدفعها في أبياتٍ كُثُر أن يتوحد شعوريا مع النبي الكريم في مراحل الجُهد والشدة. ويقول تحملوا واصبروا وصابروا مهما ضاقت علينا الدنيا والتاريخ بما رحُبوا، فحتي المبعوث من رب العالمين ليكون خاتم الأنبياء وآخر عنقود الوحي الرباني، كان بشراً تضيق به الدنيا وتميد، ولولا أن ثبته الله لكان في الأمور أمور. فكانت بشرية المصطفى هي أميز ما يريدنا تميم أن نلتفت إليه في أيامنا هذه. وكذلك الرعيل الأول من المسلمين، كانوا نماذج في الصبر على البلاء والعذاب في سبيل اعتقادهم، وكان النبي الكريم قدوة في صبره على بلائهم أمام ناظريه، وهو المحب الشفيق الرقيق.
بِمَا رَأَى مِنْ عَذَابِ المُؤْمِنِينَ بِهِ إِنْ قِيلَ سُبُّوهُ نَادَوْا وَاحِدَاً أَحَدَا
بِمَا رَأَى يَاسِرَاً وَالسَّوْطُ يَأْخُذُهُ يَقُولُ أَنْتَ إِمَامِي كُلَّمَا جُلِدَا
واستشعر قلقه – عليه الصلاة والسلام – على ابن عمه عليٍّ الذي افتداه بجسده ونام في سريره ليلة تربص به أعداء السماء والضياء والإنسان وقد استحق عليٌّ الذكر الخالد لشجاعته وفدائه وإخلاصه، ونعم القدوة الحسنة لنا هو ومن على دربه. وشاهد ثباته محصوراً في غار ثور، وتثبيته لرفيق هجرته وليس بينهما وبين أنصال المشركين إلا أوهن البيوت.
يَقُولُ يَا صَاحِ لا تَحْزَنْ وَدُونَهُمَا عَلا لأَنْفَاسِ خَيْلِ المُشْرِكِينَ صَدَى
وفي هذا السياق يضرب تميم في صميم ما يريد، فيشير بجلاء إلى أن جوهر رسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو تكسير كل القيود على القلوب والعقول والأجساد، وتثبيت حرية الناس، مهما كلفتهم هذه الغاية النبيلة من جهدٍ وصبر. وهذه الفكرة مركزية في بردة تميم، وستكون هي أساس الجزء القادم من رحلتنا من البردة، وتصلح أن تكون هي عنوانها الفكري الأبرز.
مِنْ أَجْلِهِ وُضِعَ الأَحْبَابُ فِي صَفَدٍ هْوَ الذي جَاءَ يُلْقِي عَنْهُمُ الصَّفَدَا
لَمْ يُبْقِ فِي قَلْبِهِ صَبْرَاً وَلا جَلَدَاً تَلْقِينُهُ المُؤْمِنِينَ الصَّبْرَ وَالجَلَدَا
ورسالة طمأنة عزيزة مهما كان ما يعصف بنا، إن الرسول الكريم معنا، ويعرفنا فرداً فرداً، فانتظروا الشفاعة جزاء البذل والشجاعة. إنه معنا روحاً ونهجاً في كل تفصيل من حياتنا الإنسانية. وهي أيضًا صيحة للاجئين والمستضعفين والقابضين على جمر الحرية والحياة.
يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ يَا سَنَدِي أَقَمْتُ بِاسْمِكَ ليْ فيْ غُرْبَتِي بَلَدَا
وقد تنقل البرغوثي في الجزء الاول من القصيدة المتكون من سبعة وعشرين بيتاً -كشأن سالفَيه البوصيري وشوقي- تنقل بين الغزل والحكمة والحنين واللوعة، بين النظم تارة والابداع تارة اخرى بأبيات عالية البناء قوية السبك حتى ختم بقوله مضمنا صدر البيت الانف الذكر بقوله:
عَلَى النَّبِيِّ وَآلِ البَيْتِ والشُّهَدَا مَوْلايَ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمَاً أَبَدَا
يتلمس تميم خطاه في مديح الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، حيث يغاير المعتاد في مدح خصاله ومعجزاته، إلى مدح المشترك الإنساني المطروق لدى كل من عانى ما عاناه الرسول– على فرادة معاناته وسمو منزلته على من سواه- في لطف ورهافة شديدين، حيث يرفض أن يمتدح السمات المتكررة، معتبرًا أنها جانب مفروغ منه وسطحي إذا قيس بعمق شخصيته الفريدة. واستطاع إتقان حبكة القصيدة، حيث بدأها كالأولين بغزل قدر على جعله بألفاظ تراثية، إلّا أن معانيها ميسورة جدًا للمعاصرين، وهي تشتبك مع التراث وربما تجاوزه ثم يحكم الختام على مائتي بيت بالتحديد، في لفتة طريفة حيث قال:
وَهَذِهِ بُرْدَةٌ أُخْرَى قَدِ اْخْتُتِمَتْ أَبْيَاتُها مِائتَانِ اْسْتُكْمِلَتْ عَدَدَاً
يَا رَبِّ وَاْجْعَلْ مِنَ الخَتْمِ البِدَايَةَ وَانْــصُرْنَا وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا

المصادر والمراجع:
1) البُردة وأخواتُها، مختار محمود، نوفمبر 2019
https://vetogate.com/359375
2) قصيدة أنوار البردة في مدح الرسول، جديد خالد الشيباني، بوابة الأهرام،16 ديسمبر 2020
3) نهج البردة للشاعر المسيحي ميخائيل ويردي، محمد القوصى
4) أثر المدائح النبوية في تعزيز القيم الإسلامية، محمد ناصر محمد عثمان، كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة.
5) https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=19012013&id=66c0a75c-eef0-47d5-ad91-1da7a0e7d8ce
6) https://www.aldiwan.net/poem58555.html
7) https://www.ida2at.com/barda-leona-our-ordeal-in-the-hands-of-the-prophet/