الإنسان حيوان اجتماعي مع ميول بذاته وخلقه إلى جنسه ونوعه ومجتمعه والحياة تغلق أبوابها أمامه عند انزوائه على نفسه بعيدا عن أخيه الإنسان. وبمعنى أدق أن الحياة الإنسانية تستحيل إذا أصبحت فردية ومنفردة ومنعزلة عن الآخرين لأن نفس الإنسان وجسده تطلبان منه إلفة ورأفة مع الآخرين وهذا المنظور والطريق صار سببا لبقاء حياة بشرية بدأت من مرحلة ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا في القرن الحادي والعشرين، وإلا لكان العنصر البشري منعدما تماما من وجه الأرض واستئصل أخيره من هنا بطريق الظلم والقتل والحرب. وكلما اضطرب وتحرّك الإنسان عن هذا الخط الصائب المستقيم ضلّ وأضلّ ونشبت الحروب الإنسانية الدامية بينه وبين إخوانه الآخرين سواء كانوا من أهله ومجتمعه ودولته وخارج دولته وخارج قارّته.
الإقرار بفكر الإلفة والرأفة مع الآخرين يلغي طبعيا أفكارا عشوائية من القول بالأصل، الهوية الواحدة، الوطنيّة والتفاضل بين الثقافات. وهذه هي الأفكار تجعل الإنسان متعصّبا ومهيمنا على الآخرين وفوق كل هذه أن هذه الأفكار تؤدي إلى مشاجرات وحروب وأجواء غير مطمئنّة وغير سليمة.
من نحن؟
شهدت العالم على مرّ عصوره ودهوره الفلاسفة العظماء والساسة الأجلاء وأصحاب الأديان السماوية وغير السماوية وأصحاب اللادينية العديدين ودعا كل واحد منهم الإنسان إلى رأيه وصوابه ودينه ونظريّته وسياسته. وقد اختلفت وتختلف محتويات وفروع كل هذه الأفكار والآراء والنظريات ولكن توجد هناك كلمة سواء بين كل هذه الأطراف وهذه الكلمة هي لازمة أن تكون رائدة هذا العالم وما هي تلك الكلمة؟ ألا وهي شعور البشرية والإنسانية.
وطبيعة الإنسان تسمحه أن يجتمع مع الآخر أحيانا بالنظر إلى علمه ورايته وبالنظر إلى دينه وشعاره وبالنظر إلى لباسه ولغته وبم لا يجتمع بالنظر إلى عنصره البشري مع أنه أساسه وأصله وعليه خلق جيله الماضي ويخلق جيله القادم؟
دع العالم أن يجعل هذه الفكرة سائدة ورائدة تجمع العالم أجمع تحت راية واحدة لا لون لها وتحت دين واحد لا صاحب له وتحت شعار واحد لا حروف فيه ودع العالم أن يدع وراءه الأفكار والآراء ولدها وأنجبها بعض العلماء بمثل أفكار صراع الحضارات أو صدام الحضارات. وهذه الأفكار إذا تجسّدت في الإنسان تلد منه بدون معرفة منه، ولتكن كلمة تعايش الحضارات مكان صراع الحضارت فكريّا وعلميا وعمليا. وهذه الأفكار تكون ذات الرسالة السلمية والطمأنينية تدخل إلى أذهان أصحاب العقول بأسرع من دخول الأفكار الهرجة والمضطربة بسبب إلفة الذهن الإنساني مع السلم والسلام أكثر مع الظلم والظلام والصراع وهذا شيء طبيعي خلقي في الإنسان.
والسؤال طبيعا يصدر من هذه النقطة، وهو إذ كيف تقع وتجري الحروب والغزوات والمشاجرات بين الإنسان الذي خلق على الطبيعة العظيمة التي تساعد العالم للمحافظة على القيم الراقية العظيمة بجعل جوّه هادئا وتربه سليما كما هو في بدايته؟! والجواب بسيط ويسير يجيء إلى كل خاطر لدى التفكر البسيط هو بتجاوز الإنسان الحدود ومخاطرته إلى المخاطر، والإنسان أحيانا يتجاوز الأسهل للأخذ بالأصعب ويتجاوز الأهدأ للقبول بالأقلق.
ولدى إضافة كل ما كتب الإنسان من النظريات والمنظورات عن مستقبله إلى صفحات محدودة لتتسهّل قرائتها لنا تتضح الأمور والحقائق بأن المكايد التي نسجها الإنسان بخياله مما وراء السماء وبما يبقى في محاجر عقله قد تحقّقت ،وقد وقع فيها الإنسان بنفسه في حين وأخرى. ومن أعظمها يكون خلق صموئيل هنتينجتون عن خيال صراع الحضارات وهذا صار سهما أدّى أو يأدّى إلى صراع حقيقي في الحال أو المآل. وهذا كما يقال عن الكوارث، وهي نوعان: كارثة طبيعية وكارثة صناعية. وأما على مائدة بحثنا فهو من نوع كارثة صناعية والإنسان إذا لم يقم بما على عواتقه يقوم به غيره لسدّ تلك الفجوة نتيجة التعايش ولكن المهمّة العظمى عليه ألا يقوم بما لا عليه بحفر هواة تقبر فيه الآلاف.
ونلخّص من كل ما حلّلنا هنا أنه إذا سئل واحد، من أنتم؟ يجيب "نحن البشر"، ودع كل ما تعوّدت عليه من الأجوبة الضيقية حدودها من "نحن هنود، نحن أمريكان، نحن بريطانيون، أو نحن مسيحيون، نحن مسلمون" ودعنا نعرّف أنفسنا بلا حسب ولا نسب كما عرّف أديب مقاومة فلسطين محمود درويش في قصيدته الشهيرة "بطاقة الهوية" يقول:
أبي.. من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدّي كان فلاحا
بلا حسب.. ولا نسب!
يعلّمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتب
وبيتي كوخ ناطور
من الأعواد والقصب
فهل ترضيك منزلتي؟
أنا إسم بلا لقب
وجهود الإنسان لإضافة الأذيال والألقاب معه تضعيه البقاء والاستدامة وتزيل التراب عن تحت قديمه وهو لا يعرف وينسى أو يتناسى عن لقبه البشري وينحطّ ويتدهور إلى درجة البهائم ويجعل سكنه حظيظها. وصور هذه الحالة عديدة يشاهدها العالم يوما بيوم بقتل وإعدام وإبادة لأسباب يسيرة غير معقولة أو لأسباب يتم حلّها بنقاش جماعي أو محادثة حول الطاولة ولكن الإنسان الشره لا ينتظر للحلول ويتكالب على ما يخطر بباله ويقوم بما في ذهنه الخالي. وما هي نتيجة هذه؟ مصرع الآلاف ومفارقة المئات حياتهم وأهلهم مع أن أغلبهم يكون أبرياء ومجهولين عن أسباب قتلهم أولئك كالأنعام بل هم أضلّ.
التنوّع والتعدّد للتعارف
القرآن الكريم، الكتاب الإلهي المقدّس للمسلمين، يقول في إحدى سوره "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا"( سورة الحجرات، رقم الآية:13) وفوق التباين والاختلاف بين الأديان والمعتقدات دعنا نحلّل ما في زبدته من المعنى، والإنسان إذا عرف هذا وأخذه بحق الاعتبار يتّضح المعنى الأسمى والخير الكبير ما وراء تعدّد اللغات والحضارات والثقافات. وهذه الآية في أول وهلة على معنى بسيط ولكنها تفتح بابا واسعا يتخلّص العالم الأجمع بقبول ما فيها من مخالب الصراعات وخيالاتها وعند النظرة الدقيقية عن تنوّع الحضارات والثقافات يتجلّى لنا أنه للتعارف لا للتفارق. ونحن في عالم العلم والمعرفة وكل واحد يوثر العلم والحصول على عدم العلم والضياع وإذا كان التنوّع أو التعدد الثقافي واللغوي سببا للحصول، لم يتنافر منه الإنسان؟ ولم يلجئ إلى ما لا فائدة له ولا لغيره؟
وأنه لا يشك فيه أحد ولا يختلف فيه اثنان لدى تقليب ورقات التاريخ إلى الوراء أن الأجيال السالفة والقرون الماضية كانوا يتداولون بينهم كل ما لديهم من العلوم والثقافات والحضارات والبضائغ وغيرها واستفادوا منها فتقدّموا وترقّوا نتيجة عن هذا التداول المفيد، وهذا التداول قد أعدم كل الفجوات والفروق سواء كانت حضارية أو ثقافية أو لغويّة وهذا هو التاريخ الجليل أمامنا. وليس لنا مستقبل باهر بدون ارتباط بالماضي المزدهر لأنه أساسنا وأصلنا وعليه حالنا ومآلنا.
وصفوة القول، إن التداول لا ينقص ما بأيدي واحد بل يزيد، وأحيانا الإنسان سواء كان مجتمعا أو دولة ينزوي إليه ويمنع التداول بسبب خوف النقصان والعدم ولكن الحقيقية التي شاهدها العالم هي أن الحضارة والثقافة كلما راجت وروّجها أهلها بين العالم تطوّرت وتقدّمت حتى وصلت مقاليد الحكم إلى أيديهم.
العنصر الذي يميّز الإنسان عن غيره هو الرشد والقدرة الفكرية المتميّزة وبمساعدة هذه الفكرة يمكن لواحد أن يحوّل نقمة إلى نعمة وكارثة إلى عظمة ورهبة إلى رحمة، والإنسان تنجح حياته إذا كان مسلكه على هذا النهج والطريق وإلا لكانت حياته عشوائية بل ثقيلة على وجه الأرض لا ينتفع ولا ينفع الآخرين.
والحدود بين الدول دعها أن تبقى حدودا لتنويع خرائط الدول ولتمتيع الناس بالتنوّع الذي يفوت إذا صار العالم واحدا بدون حدود، والحدود دعها أن لا تبقى حدودا في النفوس والقلوب تبعد الأخ عن تجاوزها لوصول إلى ما بداخلها من المناظر ورؤية أخيه الإنسان، والحدود دعها أن تكون حدودا تراها الأعين وتمحى وقت اللمس مهما كانت قواعدها وأساسها
وفكر المواطنة أو الوطنية إذا كانت بمعنى ما قال شاعر العصر العباسي العربي أبو تمام لا يشكل ولا يضرّ، وهو يقول:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا الحبيب الأول
ولكن هذا الفكر عندما يكون نزعة نفسية مذهبية يكون أعمق من أن يكون فكرا شعوريا. ويقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل في الوطنيين الألمان: "يخيل إليهم أن مصالح ألمانيا هي وحدها المصالح الجديرة بالاعتبار دون أن ينازعهم في ذلك منازع، وليس من شأنهم-مادام همهم هو هذه المصالح- أن يفكروا فيما يصيب الأمم الأخرى من أضرار ولا فيما تجره هذه السياسة من تخريب للمدن ودمار للأهالي ولا ما يلحق بالحضارة من تلف لا يمكن إصلاحه".
وأما اللغة فهي نعمة للإنسان وما أصدق ما قال الشاعر عن فوائد حفظ اللغات حيث يقول:
"بكثر لغات المرء يكثر نفعه وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر الى حفظ اللغات مسارعا فكل لسان بالحقيقة إنسان"
واللغة هي وسيلة للتعارف والتعاون لا للتخالف والتفارق وهي جناح يطير به الإنسان إلى عالم يلتقي فيه أخاه المفقود ويمسّ قدمه تربة مسّه آباؤه وأجداده ويتنفّس هواء تنفسه آخرون لم يحظ بمشاهدتهم وبها يقع التعارف عن الحضارات والثقافات. وعندما تتمّ عملية التعارف بمساعدة اللغة يتمّ كل شيء ويصل كل شيء إلى كماله وهدفه المنشود.
وصفوة القول إن التنوع والتعدد الثقافي والحضاري واللغوي لازم أن يكون لمساعدة الإنسان لأن يتعارف بعضهم البعض ولازم أن يستفيد منه الإنسان حق الاستفادة حتى يصبح نعمة عظمى في الحياة البشرية بدلا من النقمة للعالم البشري ومن ناحية الذوق والطبيعة الإنسانية، الإنسان يحبّ التعدّد والتنوّع والتميّز ولكن بعض الأفكار يتسلّل إليه ويهيمن عليه ويحوّل طبيعته وذوقه عن حقيقته إلى ما هو مضادة لها. وهيّا نحلم وحدة ولذّة في التنوّع ولنقم لتحقيق هذا الحلم بما علينا وهذا بدون أي مضامين من الريب والشك يقود العالم إلى ذروة المجد والاتحاد حتى يستبشر كل واحد بكل ما يسمع وبكل ما ينطق ويخيّل إلى كل واحد من العالم سواء كان من أفريقا أو من أوربا أو من آسيا أو من أية قارة أخرى أن بطاقة هويّته تستوي مع بطاقة الآخر ولا فضل لها على الأخرى وليحمل كل البطاقات رقم الواحد وهذا هو العالم في الحلم وهذا هو العالم يقوم كل من على الأرض لتحقيقيه ولنجاحه الباسل وبه تحقّق التنمية المستدامة.